Tuesday, August 22, 2006

بناء الزمن والحبكة الروائية من خلال حكاية شيخ الشاذروان

ـ بناء الزمن والحبكة الروائية من خلال حكاية شيخ الشاذروان.


من أهم ما يميز أدب الجاحظ محاكاته الواقع ، إذ أنه يصور كل ما يدور من أحداث بين الناس من خلال نظرة الجاحظ الخاصة للأمور . وتتبعا لهذا الأمر فإن حكايات الجاحظ ـ غالبا ـ تتميز بزمن ومكان خاصين . الزمن يأتي على بعدين: عام وخاص . البعد الزمني العام يشمل جميع صور عصر الجاحظ وهو مصدر كتابه . أما البعد الزمني الخاص فيقوم على التحديد الوقتي لكل حادثة موضوع صورة من الصور. فالحادثة قد تدور في الليل أو النهار أو عند الظهر أو الغروب ([1])

أما تركيزنا على الزمن في الحكاية هو أبعد مما ذكرناه، حيث أن زمن الحكاية هو زمن مزدوج ؛ فهناك زمن الحكاية نفسها بوصفها تسلسلا زمنيا ، وهناك زمن الخطاب أي ترتيب السارد للأحداث في النص القصصي . وهذا التقسيم يقودنا إلى ثلاثة ضروب من أنواع تحاليل الحكاية :

أ ـ العلاقات بين النظام الزمني لتتابع الأحداث في الحكاية والنظام الزمني لترتيبها في النص .

يهتم هذا القسم بدراسة الترتيب الزمني للنص القصصي على المقارنة بين ترتيب الأحداث في النص القصصي وترتيب تتابع هذه الأحداث في الحكاية . ويفيدنا هذا القسم في دراسة الحكايات التي لم تنظم حسب تسلل أحداث الحكاية بل بالاعتماد على تصور جمالي أو مذهبي يجعل السارد يتصرف في تنظيم هذه الأحداث في نطاق نصه القصصي . ([2])

وهكذا ، يظهر في النص تنافر بين ترتيب أحداث الحكاية ،وترتيبها في النص القصصي ؛ فقد يتابع الراوي تسلسل الأحداث طبق ترتيبها في الحكاية ثم يتوقف ، وهنا يظهر التنافر الذي يأتي على نوعين :

ـ السوابق :
عملية سردية تتمثل في إيراد حدث آت أو إشارة إليه مسبقا وهذه العملية تسمى في النقد التقليدي بسبق الأحداث ([3])

ـ اللواحق :
عملية سردية تتمثل بالعكس من حيث إيراد حدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد وتسمى هذه العملية ـ أيضا ـ بالاستذكار . ([4])

ب ـ العلاقات بين الديمومة النسبية للأحداث في الحكاية وديمومة النص ( أي طوله) وهذه العلاقات ترتبط بمفهوم النسق .

يتمثل تحليل ديمومة النص القصصي في ضبط العلاقة التي تربط بين زمن الحكاية(*) الذي يقاس بالثواني والدقائق والساعات والأيام .. إلخ ، وطول النص القصصي(**) الذي يقاس بالأسطر والصفحات والفقرات والجمل . وتقود دراسة هذه العلاقة إلى استقصاء سرعة السرد والتغييرات التي تطرأ على نسقه من تعجيل أو تبطئ له . ([5])
ولهذا القسم أربعة أنساق هي :

1 ـ المجمل :
وهو سرد أيام عديدة أو شهور أو سنوات من حياة شخصية دون تفضيل للأفعال أو الأقوال وذلك في بضعة أسطر أو فقرات قليلة . وبهذا يكون زمن النص أقل من زمن الحكاية . ([6])

2 ـ التوقف :

وهو التوقف أو القطع الحاصل من جراء المرور من سرد الأحداث إلى وصفها، أي الذي ينتج عنه مقطع من النص القصصي (زمن النص) تطابقه ديمومة تساوي صفراً على نطاق الحكاية ( زمن الحكاية الحقيقي) ، وذلك كأن يتحدث الكاتب ـ مثلاً ـ عن رأيه الخاص في حدث ما من أحداث الحكاية. وهكذا، فإن " الوصف التقليدي يشكل مقطعا نصيا مستقلا عن زمن الحكاية إذ أن الراوي عندما يشرع في الوصف يعلق بصفة وقتية تسلسل أحداث الحكاية أو يرى من الصالح قبل الشروع في سرد ما يحصل للشخصيات توفير معلومات عن الإطار الذي ستدور فيه الأحداث "([7])

3- الإضمار :

وهو الجزء المسقط من الحكاية أي المقطع المسقط في النص من زمن الحكاية . سواء نص السارد على ديمومة هذا الإسقاط ( كأن يقول : ومرت خمس سنوات )، أو ( كما في قوله : مشى زمانٌ وجاء زمانٌ ) . ([8])



4- المشهد :

يسمى المشهد تقليدا بالفترة الحاسمة ؛ فبينما يقع غالبا تلخيص الأحداث الثانوية يصاحب الأحداث والفترات الهامة تضخم نصي فيقترب حجم النص القصصي من زمن الحكاية ويطابقه تماما في بعض الأحيان فيقع استعمال الحوار وإيراد جزئيات الحركة والخطاب . ([9])

ج ـ علاقات التوتر أو العلاقات بين طاقة التكرار في الحكاية وطاقة التكرار في النص .( [10])

التواتر في القصة هو مجموع علاقات التكرار بين النص والحكاية . وبصفة موجزة ونظرية من الممكن أن نفترض أن النص القصصي يروى مرة واحدة ما حدث مرة واحدة أو أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة أو أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة أو مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة . ([11])

الحالتان الأولى والثانية ( رواية الحدث مرة واحدة لما حدث مرة واحدة أو أكثر من مرة ) يسميان سردا قصصيا مفردا ، أما الذي يهمنا ـ بما يتوافق مع الحكاية التي سنحللها في هذا المبحث ـ القسمان الأخيران وهما :

أ ـ أن يروي الحدث أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة . فالكاتب يمكن أن يروي الحدث الواحد مرات عديدة بتغيير الأسلوب ، وغالبا باستعمال وجهات نظر مختلفة أو حتى باستبدال الراوي الأول للحدث بغيره من شخصيات الحكاية كما يبدو ذلك في الروايات المعتمدة على تبادل الرسائل ـ مثلا ـ ، وهذا الشكل من النصوص يسمى بالنص المكرر . ([12])

ب ـ أن يروي مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة . وفي هذا الصنف من النصوص يتحمل مقطع نصي واحد تواجدات عديدة للحدث نفسه على مستوى الحكاية ، وهذا ما يسمى بالنص القصصي المؤلف ([13]) .

ولا بد أن نشير إلى أن المحتويات الدلالية للحكاية هو الذي يشكل التقسيم الزمني فيها لتصل إلى لحظة الأوج التي يكون فيها الزمن صفرا على صعيد زمن الحكاية ، وفي الوقت نفسه هي قمة الأزمنة لما سبقها من زمن ونقطة الصفر التي تبدأ فيها الأحداث بالنهاية .

وليتسنى لنا أن نفصل أكثر في الزمن ، وما ترك ذلك من أثر في المفارقة وحبكة الحكاية ،لا مندوحة من وضع الحكاية للتطبيق حتى يكون الكلام أكثر إثباتا واستدلالا علميا ، والنص الذي سنقدمه هو ما ذكره الجاحظ من حكاية لشيخ من أهل خراسان . ونص الحكاية :

" كان على ربض الشاذروان شيخ لنا ، من أهل خراسان . وكان مصححا بعيدا من الفساد ومن الرشا ومن الحكم بالهوى ، وكان حفيا جدا ، وكذلك كان في إمساكه وفي بخله وتدنيقه في نفقاته ، وكان لا يأكل إلا ما لا بد منه ولا يشرب إلا ما لا بد له منه . غير أنه إذا كان في غداة كل جمعة حمل معه منديلا فيه جرذقتان ، وقطع لحم سكباج مبرد ، وقطع جبن ، وزيتونات ، وصرة فيها ملح ، وأخرى فيها أشنان ، وأربع بيضات ليس منها بد ، ومعه خلال . ومضى وحده ، حتى يدخل بعض بساتين الكرخ ، وينظر موضعا تحت شجرة وسط خضرة وعلى ماء جار . فإذا وجد ذلك جلس ، وبسط بين يديه المنديل ، وأكل من هذا مرة ومن هذا مرة . فإن وجد قيم ذلك البستان رمى إليه درهم ، ثم قال : اشتر لي بهذا ، أو أعطني بهذا ، رطبا ـ إن كان في زمان الرطب ـ أو عنبا ـ إن كان في زمن العنب ـ ويقول له : إياك إياك أن تحابيني، ولكن تجود لي ، فإنك إن فعلت لم آكله ولم أعد إليك . واحذر الغبن فإن المغبون لا محمود ولا مأجور . فإن أتاه به أكل كل شئ معه ، وكل شئ أتى به ، ثم تخلل وغسل يديه ، ثم تمشى بمقدار مائة خطوة . ثم يضع جنبه ، فينام إلى وقت الجمعة . ثم ينتبه فيغتسل ، ويمضي إلى المسجد . هذا كان دأبه كل جمعة … فبينا هو يوما من أيامه يأكل في بعض المواضع ، إذ مر به رجل فسلم عليه ، فرد السلام ، ثم قال: هلم عافاك الله . فلما نظر إلى الرجل قد انثنى راجعا ، يريد أن يطفر الجدول أو يعبر النهر ، قال له : مكانك ، فإن العجلة من عمل الشيطان . فوقف الرجل ، فأقبل عليه الخراساني وقال : تريد ماذا ؟ قال : أريد أن أتغذى . قال : ولم ذاك ؟ وكيف طمعت في هذا ؟ ومن أباح لك مالي ؟ قال الرجل : أو ليس قد دعوتني ؟ قال : ويلك ، لو ظننت أنك هذا أحمق ما رددت عليك السلام . الآيين فيما نحن فيه أن تكون ، إذا كنت أنا الجالس وأنت المار ، أن تبدأ أنت فتسلم ، فأقول أنا حينئذ مجيبا لك : وعليكم السلام . فإن كنت لا آكل شيئا سكت أنا وسكت أنت ، ومضيت أنت وقعدت أنا على حالي . وإن كنت آكل فها هنا آيين آ خر ، وهو أن أبدأ أنا فأقول : هلم ، وتجيب أنت فتقول : هنيئا . فيكون كلام بكلام ، فأما كلام بفعال وقول بأكل فهذا ليس من الأنصاف، وهذا يخرج علينا فضلا كبيرا ، قال : فورد على الرجل شئ لم يكن في حسابه " ([14]) (*).

هذه الحكاية طويلة نسبيا ـ إن نظرنا إليها من حيث الطول ـ ، ذلك أنها حكايتان في صيغة حكاية واحدة ؛ فالحكاية الأولى تصف تصرفات شيخ الشاذروان بشيء من التفضيل ضمن مدة زمنية حكائية طويلة ، والحكاية الثانية تمثل حوارا بين شيخ الشاذوران ورجل أراد السطو على طعامه ضمن زمن حكائي قصير .

وكان لهذا التقسيم الفريد ـ دمج حكايتين في صورة حكاية واحدة ـ أثر في تشكيل الحبكة الروائية ، فالحبكة في الحكاية الأولى جاءت مقدمة للحكاية الثانية وحبكتها التي ما إن تنتهي حتى تشكل لدى القارئ صورة واضحة عن شخصية الشيخ الخراساني، ومدى بخله عن غيره ،وإلزامه نفسه الضروري من الأمور . وهكذا فإن الحبكة العامة التي وسمت هذه الحكاية هي حبكة مركبة تصاعدت بتصاعد زمن الحكاية حتى وصلت إلى أوجها ثم بدأت بالهبوط وصولا إلى خاتمة الحكاية .

ولا بد لنا من دراسة كل قسم حكائي على حدى ليتسنى لنا تحديد الزمنية الداخلية للنص في ضوء المفارقة ، وهذه الأقسام هي :

1 ـ القسم الأول :
ـ الأحداث :

تتشكل الحكاية من اجتماع الجاحظ بإبراهيم بن السندي ؛ فيبدأ إبراهيم بسرد حكايته عن شيخ الشاذوران ، الذي كان مثالاً في كل شئ ،و كان مثالاً في النزاهة والرزانة، وكان مثالاً في البخل إلا أنه كان يدع البخل يوم الجمعة ؛ فيأخذ الأصناف المتعددة من الطعام ويخرج إلى الطبيعة حتى يروح عن نفسه ويستمتع في أكله ووقته . وحتى يزداد بذخا في هذا اليوم كان يطلب من قيم البستان ـ إن وجده ـ أن يشتري له ما يتفكه به ، وما أن ينتهي من الطعام حتى يمشي مقدار مئة خطوة ثم ينام إلى أن يستيقظ إلى وقت صلاة الجمعة .

ويمكن لنا أن نجد من خلال هذا الوصف السريع لنفسية هذا البخيل ـ مفارقة الأحداث ذلك أن وصف إبراهيم بن السندي لتصرفات الشيخ وأنه أشد ما يمكن في البخل تلفت الانتباه إلى أن ما سيقوم به يوم الجمعة ستكون الأمور الأشد في البخل ، لكننا نتفاجأ أن الطعام الذي يفترض أن يكون قليلا يجعله البخيل كثيرا بل إنه يسرف على نفسه ويتمتع بطعام توقعنا أن يبخل به على نفسه .

ـ بناء الزمن :

ـ هذا القسم الحكائي يتشكل من مقدمة تتحدث عن صفات الشيخ الخراساني فهي تشكل توقفا من الناحية الزمنية فهي لا تسرد حدثا أو تصف طريقة قيام بعمل ، بل تمثل وصفا سابقا لشخصية الخراساني يظهر جليا نهاية الحكاية في قسمها الثاني ، ثم يأتي الجانب الحكائي الذي يدور في يوم الجمعة ،وهو يقع في أحد عشر سطرا ضمن النص القصصي ، وهذه الأسطر الأحد عشر تمثل واقعا يقع ضمن أربع ساعات تقريبا، يقوم فيها الشيخ بالتجوال وتناول الطعام والمشي ثم النوم فالنهوض للاغتسال والذهاب إلى الصلاة . إذن ، زمن النص هو أقصر بكثير من زمن الحكاية، وهنا استخدم الكاتب طريقة التخلص حتى يتخلص من طول الحكاية ، وهذا النوع ما يعرف بالمجمل .

وإذا كان زمن النص أقصر بكثير من زمن الحكاية في القسم الحكائي السابق، فإن الأمر يختلف إذا أمعنا النظر في الأسطر الأخيرة من القسم الأول، وخصوصا المقطع الذي يخاطب فيه الخراساني قيم البستان فيتكافأ زمن النص مع زمن الحكاية ويتساويان. وفي نهاية الأمر يعاود الجاحظ استخدام التلخيص السريع للأحداث لينتهي القسم الأول وقد اتسم بالسرعة والتركيز على العموم من الأحداث .

أما إذا تساءلنا عن سبب استخدام التلخيص والمجمل من الكلام في هذا القسم ؛ فإن السبب ـ فيما أرى ـ كامن في نفسية الكاتب وهو أنه يريد أن يوصل حدثا معينا للقارئ وهو ما جرى للخراساني مع الشخص الذي دعاه إلى الطعام ، ولكن الكاتب إذا نقل هذا الحدث منفصلا عن مرجعيه معلوماتية حول الشخص الذي يتحدث عنه كانت الحكاية ستفقد كثيرا من حيوتها وجمالها ؛ فكان القسم الأول بمثابة القسم الذي يوجه الإنارة التي تزيل ما كان سيقع من ظلمة في القسم الثاني، لو لم يذكر القسم الأول .


ـ المفارقة :

تبرز المفارقة في هذا القسم بشكل متتابع ؛ فالأحداث سريعة متلاحقة مما يجعل النص غنيا بأنواع متعددة، وغير مقتصرة على نوع بعينه ، ومن المفارقات التي برزت في هذا القسم :

1ـ قوله : " كان على ربض الشاذوران شيخ لنا " ، هنا السارد يفتخر بهذا الشيخ لأنه خراساني ، ومن الغريب أنه يفتخر به ـ لقوله : " لنا " ـ ثم يتحدث عن نوادره وبخله، وكأن افتخاره أصبح للبخل وكأن البخل أصبح صفة تسم الخراساني ، وهذا ما يسمى بمفارقة النسب .


2ـ قوله : " غير أنه إذا كان في غداة كل جمعة " ، وقد كان يتحدث عن شدة بخله وتدنيقه ثم استخدم لفظة ( غير أنه ) ليضع استثناء لحالة كرم واحدة تحدث في يوم واحد من أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة ، فتميز هذا اليوم أنه يحدث فيه أهم الأحداث بالنسبة للخراساني إذ هو يكرم على نفسه فيه ، وهنا نجد مفارقة الزمن في استخدام يوم الجمعة نقطة زمنية للكرم .

وقد نجد في الفكرة نفسها مفارقة أخرى في نهاية القسم الأول هي مفارقة التكرار لقوله : " هذا كان دأبه كل جمعة " ؛ فالشيخ الخراساني يقوم بكل هذه الأعمال كل يوم جمعة دون أن يغير أعماله في هذا اليوم ، والملمح الجميل أن السارد لم يكرر ما حدث بل جعل هذه الحكاية التي تتكرر دائما ـ بالنسبة للخراساني ـ مقدمة مختصرة لاستثناء آخر سيغيّر على الخراساني صفو طقوسه التي يقوم بها في كل جمعة .

3ـ وصف الجاحظ للخراساني بأنه بعيد عن أي أمر مفسد وأنه من الأخلاق في أحسنها ثم يأتي بالنقيص لقوله : " وكذلك كان في إمساكه وفي بخله " فبعد أن رفعه إلى أعلى مكانة من الأخلاق ، والثناء أسقطه من تلك المنزلة إلى منزلة الوضاعة والبخل ، وهذا ما يسمى بمفارقة السقطة .


4ـ مفارقة المتعة / البذخ : وذلك ما نجد عليه الخراساني من أفعال يوم الجمعة ؛ فهو دائم البخل في جميع الأيام إلا أنه في يوم الجمعة يعوض ما ضاع عنه باقي الأسبوع، فهو يأخذ كمية لا بأس فيها من الطعام ، وإذ يريد أن يأكل فإنه يتخير أفضل الأماكن وأجملها ليأكل ؛ فلا بد ـ بالنسبة له ـ أن يترافق مع تمتعه بالطعام تمتع شاعري حتى يشبع أحاسيسه وترتاح نفسيته .

ونجد مفارقة المتعة في تصرفات هذا البخيل وحركاته ؛ فهو عندما يأكل لا يأخذ من صنف واحد فقط ، بل ينوع ويغير الطعام في كل لقمه يرفعها إلى فمه ، لا مندوحة من أن هذا التنويع والتغيير كامن في لا شعور الخراساني فهو يقوم بمجموعة أعمال عامة كل جمعة إلا أنها لا تتكرر حرفيا ، فهو يكره أن يستمر على وتيره واحدة ولذلك نجده في كل مرة يتخير مكانا مختلفا عن الآخر ،وربما يزور بستانا مختلفا . ويكون ألذ تمتع لديه في طريقة معاملة قيم البستان فهو لا يعطيه الدرهم بيده بل يرميه إليه بطريقه لا تخلو من الاستعلاء ـ فيما أرى ـ والتكبر لأنه سيشتري منه؛ فيضع الشروط والصفات التي يريدها في الأكل .


2ـ القسم الثاني :

ـ الأحداث :

تدور أحداث هذا القسم في مدة زمنية قصيرة جدا ـ إذا ما قورنت بالقسم الأول ـ ، لكن هذه المدة القصيرة لم تكن عائقا أمام الكاتب ، فوجدنا الوصف الكامل للحدث الذي تم خلال هذه المدة القصيرة بل إن الكاتب نقل لنا الحركات والنظرات والهيئة التي تم عليها الحدث بتفصيل دقيق .

وتلخيصاً للحدث ، فإن الجاحظ ينقل لنا لحظة تناول الشيخ الخراساني الطعام، وإذ مر به شخص ، فدعاه إلى الطعام ـ مجاملة ـ فحدث خلاف ما كان يتوقع الخراساني ، وما لم يكن يريده أن يحدث ، وهو تنفيذ المار لهذه الدعوة وعندها سارعت النفس البخيلة إلى السيطرة على الموقف وملك زمام الأمور بالرفض والنهي عن هذا الفعل .

وما حدث في اللحظة التي دعا فيها الخراساني المار وتلبيته الدعوة على خلاف ما كان يتوقع الخراساني هو ما يقع ضمن مفارقة الحدث .




ـ بناء الزمن :

قبل الحديث عن أي مرتكز فني ساهم في بناء زمن هذا القسم لا بد من الإشارة إلى وقت الحكاية بدقة ، وهذا ما تشير إليه الجملة الأولى من هذا القسم : ( فبينا هو يوما من أيامه يأكل ) وقد كان ذكر الجاحظ ما يفعله الشيخ في يوم الجمعة كاملا ، ثم اختصر كل ما ذكره سابقا حتى يصل إلى هذه النقطة ؛ وبهذا أصبح القسم الأول وما يحويه من حبكات قصصية تمهيدا فنيا جديدا ابتكره الجاحظ ليصل من خلال ذكر ما يحدث طوال الأيام الجزئية البسيطة التي حدثت في يوم من هذه الأيام . وعند النظر في الحدث الذي وقع في هذا القسم فهو لا يتجاوز سلاماً بين اثنين ثم مجادلة قصيرة لأن الرجل أراد الأكل مع الشيخ ، وبذلك فإن هذا الحدث كاملا لا بد وأنه حصل في مدة زمنية تقل عن عشر دقائق ، وهي مدة زمنية قصيرة قد يشير إليها أي كاتب آخر بجملة أو بعبارة .


قد لا نقف عند الإشارة الوحيدة إلى أن زمن النص يتساوى مع زمن الحكاية أو يزيد في بعض اللحظات . ويمكن لنا أن نبحث في فكرة أكثر عمقا ، وهي : لماذا تساوى زمن النص مع زمن الحكاية في هذا القسم ؟ وجواب هذا السؤال يحتاج إلى تفصيلات متعددة تختص بقراءة أسلوب الجاحظ وما نفذه من تقنيات فنية ساهمت في تضخم حجم النص .

من أبرز الأسباب التي ساعدت في تضخم النص أن هذا القسم هو الفترة الحاسمة بالنسبة للحكاية ككل ، فجاء إيراد هذا القسم على هيئة مشهد ، وهذا من شأنه أن يتحكم في السرد، فيتخلله ـ أحيانا ـ توقف زمني بسبب الانتقال من السرد إلى الوصف . ومن ملامح استخدام السرد إيراد الحوار بين الخراساني والرجل. أما من الملامح التي اتسم بها الوصف ؛ فهي التفصيلات الدقيقة للشخصين، وإظهار أدق تحركاتهما وتعابيرهما طوال هذا القسم .

بدأ الجاحظ هذا القسم بمقدمة يصف فيها مرور الرجل بالخراساني وأنهما ردا على بعضهما السلام ، ثم ينتقل مباشرة إلى الحوار لقول الخراساني : هلمّ عافاك الله. ثم نلمح توقفا زمنيا في النص عندما يصف الجاحظ حركة الرجل المار بقوله : ( فلما نظر إلى الرجل قد انثنى راجعا ، يريد أن يطفر الجدول أو يعبر النهر … ) ، ويعقد بعد ذلك حواراً يخاطب فيه الخراساني الرجل ، ثم يتوقف زمن النص مرة أخرى ليصف حركتي الرجلين بقوله : ( فوقف الرجل ، وأقبل عليه الخراساني ) ، ويتبع هذا الوصف حواراً دقيقاً لما دار بينهما من كلام ليتساوى زمن النص مع زمن الحكاية الفعلي ، إلا أن الملحظ على هذا الحوار أن الجملة الأخيرة منه جاءت وصفا متضمَنّاً داخل الحوار؛ فالخراساني عندما كان يوضح للرجل خطأه كان يصف له ما يفعل في كل حال يخاطبه فيها أي إنسان .

وهكذا ، نستطيع أن نقول : إن هذا القسم توقف زمنيا لثلاث مرات وجاء فيه السرد على هيئة الحوار ثلاث مرات ـ أيضا ـ ، ونتيجة لذلك نجد في هذا القسم تساوياً بين زمن نصه وزمن حكايته من حيث نسبة عدد الأسطر إلى زمن الحكاية، ومن حيث تصوير تفاصيل الحكاية حتى العابر منها ، ومن حيث عدد مرات تكرار التوقف الزمني ـ الذي يعد تضخما نصيا ـ ، وعدد مرات تكرار الحوار ـ الذي يعد نقلا حرفيا لما تم في الواقع ـ .

ـ المفارقة :
ـ المفارقة في قسمها الأخير :

تنوعت المفارقة في القسم الأخير من الحكاية ، وجاءت منها الأشكال المختلفة تبعا للموقف الذي استدعاها ؛ وبما أن القسم الأخير من الحكاية نصفه سردي يتسم بالحوار، ونصفه الآخر وصف يتسم بالتفصيل والتصوير ـ تراوحت المفارقة بين هاتين الجزئيتين فاتسمت المفارقة في القسم السردي بالمباشرة والسرعة نظرا لأن الحوار قصير ، أما المفارقة في قسم الوصف فجاءت أكثر حركة وتعكس نفسية الشخصيتين . وحتى يقتضي لنا أن نؤكد على صحة هذه الملاحظة سنأخذ المفارقة بجانب من التحليل في قسمين منفصلين :

أـ المفارقة في القسم السردي :
من مفارقات هذا القسم :
1ـ قوله للرجل عندما رآه : هلم عافاك الله .
هذه العبارة لا تتفق مع شخصية الشيخ الخراساني الذي وصفه الجاحظ أول الحكاية ، فكيف يكون في درجة عالية من البخل ، ويدعو الرجل إلى طعامه ؟!
هو في هذا اليوم (الجمعة) يناقض ـ فيما أرى ـ كل أعماله التي يقوم بها خلال أسبوعه ، وهو في هذه الدعوة إنما يريد أن يتشابه مع أفعال الكرماء من العرب ، بل إن جملته لا تتعدى كونها خصلة عربية حميدة ، وهو أراد أن يشبع ما تشكل لديه طوال الأسبوع من نقص لأفعال الكرم لكثرة قيامه بأفعال البخل ما عدا الجمعة . ولكن هذا البخيل سرعان ما يتراجع عن كلامه لإحساسه بأنه أخطأ عندما دعا الرجل ، فهو يكرم نفسه، لكن ما الذي دفعه إلى إكرام غيره ؟! ويدلنا على ذلك قول الخراساني نفسه نهاية الحكاية عندما امتنع الناس عن السلام عليه : " ما بي إلى ذلك حاجة ، إنما هو أن أعفي نفسي من ( هلم ) ، وقد استقام الأمر " ([15]) .

2ـ عندما رأى الرجل راجعا قال له : مكانك ، فإن العجلة من الشيطان .
أن يكون البخيل كريماً فهذا أمر شاذ حتى وإن كان ليوم واحد فقط ،ولكن هل يمكن للبخيل أن يظل كريما طوال اليوم ؟! نعم ، قد يظل كريما طوال اليوم ولكن ليس إن تعرض أحد إلى ما يخصه . وهذا ما حدث مع الشيخ الخراساني فهو كريم إلا إذا رأى أحداً قد يستفيد منه، أو يسطو عليه فتتحرر نفسيته البخيلة من جديد ويظهر مع هذا التحرر طبائع البخل الكامنة في نفسيته ، فتعود أموره إلى سجيتها ويظهر ما كان هو عليه طوال الأسبوع من بخل ، ومن ذلك وصفه موافقة الرجل على دعوته بأنها عمل من الشيطان ؛ فأي شخص يطمع في مال الخراساني، ويريد السطو عليه هو شخص يخلو من أي إنسانية . فتظهر لنا شخصية الخراساني المتناقضة من حيث اتخاذ الكرم ونقضه في الوقت نفسه بشكل من المفارقة النفسية .

3ـ أسئلة الخراساني المتتالية :( تريد ماذا ؟ ولم ذاك ؟ وكيف طمعت في هذا ؟ ومن أباح لك مالي ؟ ) فهذه الأسئلة المتكررة التي تفيد استنكار تلبية الرجل دعوة الخراساني إنما هي دليل على شدة فزع الخراساني من هول تصرف الرجل، وعلى شدة الأذى الذي ألحقه فعل الرجل في شعور الخراساني .

ومن الملامح المميزة في هذه المفارقة سؤاله الأول " تريد ماذا ؟ " فتقديم الفعل على الاستفهام هو إبراز لأهمية الفعل ، فالخراساني تفاجأ من فعل الرجل ولذلك عندما بدأ الكلام بدأ بالحديث عن أهم ما يفكر فيه ، وهو فعل الرجل المار .
قد نستفيد من احتواء هذه المفارقة على جانب كبير من اللغة في الاستفهام وفي تقديم الفعل (تريد ) ، ومن جانب آخر نستفيد من تصويرها لجوانب البخيل النفسية وردة فعله فيتشكل لدينا من هذه الجوانب ما يعرف بالمفارقة المركبة .


ب ـ المفارقة في قسم الوصف :
من مفارقات هذا القسم :
1ـ عندما رأى الخراساني الرجل يعبر الجدول أوقفه وأقبل عليه . فلم يجعل الرجل يأتي إليه ويشرح له الموقف لكنه يريد أن يبعد الرجل عن طعامه بأي طريقة، ولا يريده أن يقترب أكثر من طعامه خوفا عليه ولذلك هو الذي ذهب إليه . وهنا يمكن لنا أن نتخيل مفارقة السلوك الحركي هذه من خلال عيون المراقب لمجريات الحكاية ؛ فسيكون غريبا وقوف الرجل وقدوم الخراساني إليه .


2ـ تعليل الخراساني سبب رفضه لأكل الرجل معه ، واستخدام الشرح والتوضيح المفصل الذي يتخذ جانبا علميا دقيقا في التفسير، واستخدام الدليل الواضح إذ أن الكلام لا بد أن يقابله كلام أما أن يقابله فعل ؛ فهذا مما لا يجوز ، وهكذا فإن كلام الخراساني يدخل ضمن المفارقة المنطقية إذ استغل الجوانب العلمية طريقة لتبرير سبب بخله .



ـ المفارقة في الحكاية كاملة :

الزمن الواقع في يوم الجمعة هو زمن غريب بالنسبة لشيخ الشاذوران ؛ فهو بخيل جدا لا يأكل إلا ما لا بد منه ، ثم نراه يوم الجمعة يجود على نفسه ويكرمها . وهو ـ أيضا ـ بعيد عن الحكم بالهوى لكنه يخطئ ويدعو الرجل إلى طعامه . فيتضح لنا أن كرمه في يوم الجمعة ما هو إلا مظهر شكلي ينفج فيه على غيره ، فما أن يتعدى أحد على ما يملك إلا وظهر على حقيقته الفعلية ، فالقيمة الشكلية التي يريد أن يتمثلها وهي قيمة الكرم عند العرب لم يستطع أن يتحمل عواقبها إلا بعودته إلى قيمه الجوهرية من البخل، وعدم المحاباة . فالجاحظ ـ غالبا ـ ما كان يأتينا بالبخيل وهو يستخدم الحيلة حتى يتهرب من موقف مشابه لهذا الموقف لكنه في هذه الحكاية يأتينا بشخصية متميزة ، شخصية بخيل حفي لا يقبل التقلب على الوجهين ، لا يقبل الحيلة حتى يهرب من موقف أحرج منه .

وهكذا ، فإن أكثر ما تميزت به هذه الحكاية هو بناء زمنها حيث وظف الجاحظ الزمن أسلوبا ليأتي بالمفارقة متنوعة على هذا الشكل في الحكاية؛ فتدرجت الحبكة في الحكاية لتصنع متوالية من الحبك مشكلة ـ في النهاية ـ حبكة محكمة ، فيكون المشهد الأخير من الحكاية الموقف الحاسم الذي أنهاها .
([1] ) انظر : سعد : مع البخلاء ، ص40
([2] ) المرزوقي :نظرية القصة، ص79
([3] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص80
([4] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص80
(*) وهو الزمن الذي يمثل أحداث الحكاية على أرض الواقع، أي الزمن الحقيقي لحصولها.
(**) وهو الزمن الذي يصوره لنا النص من خلال جمله وأسطره.
([5]) المرزوقي: نظرية القصة ، ص89
([6] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص89 ـ 90
([7] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص90
([8] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص93
([9] )المرزوقي: نظرية القصة ، ص93
([10] ) انظر : المرزوقي : نظرية القصة ، ص78 ـ 79
([11] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص86
([12] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص87
([13] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص87 ـ 88
([14] ) الجاحظ :البخلاء ، ص ص 24 ـ 25
(*) انظر تتمة الحكاية وتحليلها ص 167 من هذا الفصل
([15] ) الجاحظ : البخلاء ، ص26