Friday, August 18, 2006

القراءات القرآنية-

:التمهيد-

لطالما كنت أردد قول ابن عباس : ( إذا صعب عليكم شيء من القرآن فعليه بالشعر فإن الشعر ديوان العرب ). وقد كنت أتساءل عن هذه الأهمية الكامنة في الشعر حتى تتصل في تفسير ألفاظ القرآن الكريم. ولما أخذت جانبا من البحث في مادة القراءات القرآنية تبين لي أن العلماء الأوائل كانوا يوظفون كل معارفهم خدمة للنص القرآني ولفظه. ومن ضمن هذه المعارف كان علمهم في النحو، فقد نشأ النحو في مهاد الدراسات القرآنية والقراءات، إذ وقف العلماء مفسرين ومعللين لكثير من الظواهر اللغوية التي لم يجدوا لها قياسا في اللغة ووجدوها في آيات القرآن الكريم. فكان البد لهم من دراسة هذه النصوص نحويا ولغويا حتى يكون لها موضعا خاصا.

نشأة القراءات القرآنية:

ينص عدد من العلماء(*) ـ فيما بحثت ـ أن القرآن الكريم كان يقرأ على لغة واحدة هي لغة قريش وذلك في مكة المكرمة، ولكن لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وتعدد الأقوام والأجناس تعددا يصعب عليهم قراءة القرآن الكريم على لهجة واحدة عندها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ) ([1])، ومما يزيد الأمر وضوحا ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ".([2]) فكانت هذه الإباحة لقراءة القرآن الكريم وفق ما جرت عليه عادة العرب على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولكنها إباحة مشروطة بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومما ذكره أبو شامة المقدسي أن قوله " سبعة أحرف يعني سبع لغات من لغات العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن نقول: هذه اللغات السبع متفرقة في القرآن، فبعضه نزل بلغة قريش وبعضه نزل بلغة هوازن، وبعضه بلغة هذيل ، وبعضه بلغة أهل اليمن، وكذلك سائر اللغات ومعانيها في هذا كله واحدة " ([3]) ، فعده الحرف لغة يعني ـ فيما أرى ـ أن الاختلاف في القراءة قد لا يكون باختلاف حركة أو باختلاف حرف هجائي فحسب، بل قد يتعداه إلى أبعد من ذلك من تبديل كلمة ونقلها وتقديمها وتأخيرها* كما يبين ابن مسعود ذلك في قوله: " إن ذلك كقولك هلم وتعال وأقبل " ([4])

× المصحف العثماني ورسمه:

يقال إن حذيفة بن اليمان كان يغزو أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى السيدة حفصة واستحضر من عندها الصحف وأمر بمراجعتها وتحقيقها. وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم([5])، وأمرهم بتجريده من الشكل والنقط ليحتمل ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ) ؛ فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة. ([6])

فقد كانت المصاحف التي كتبت زمن أبي بكر محتوية على جميع الأحرف، ولما كثر الاختلاف وكاد المسلمون يكفر بعضهم بعضا أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه ، وعلى ما صح مستفاضا عن النبي الله صلى الله عليه وسلم دون غيره، إذ لم تكن الأحرف السبعة واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزا لهم مرخصا فيه؛ فلما رأى الصحابة أن الأمة تتفرق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على حرف واحد؛ فكتبوا المصاحف على لفظة لغة قريش والعرضة الأخيرة.([7])
ولكن، إن كتب القرآن الكريم بلغة قريش والعرضة الأخيرة، فكيف يمكن للمسلمين قراءة القرآن بقراءاته المتعددة ؟! هذا هو السؤال الذي شغل من كتب القرآن الكريم في ذلك الزمن؛ لذلك هم " جردوا المصاحف من الشكل والنقط لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش كالجمع والتثنية وغير ذلك إذ هو موجود في لغة قريش وفي غيرها ووجهوا بها الأمصار فأجمع الناس عليها."([8])

وأما قول أبي شامة المقدسي: " والذي بين أيدينا من القرآن الكريم هو ما في مصحف عثمان رضي الله عنه الذي أجمع المسلمون عليه. والذي في أيدينا من القراءات هو ما وافق خط ذلك المصحف من القراءات التي نزل بها القرآن، وهو من الإجماع أيضا. وسقط العمل بالقراءات التي تخالف خط المصحف."([9])، ففي جملته الأخيرة حكم غير مبرر؛ فكيف يمكن لنا أن ننفي القراءات التي تخالف رسم المصحف العثماني ونحن نقرأ اليوم العديد من ألفاظ القرآن الكريم بما يخالف رسمها. وذلك مثل قراءة ( الصراط ) من سورة الفاتحة بالصاد المبدلة من السين عملا برسم المصاحف، ويقرأ بالسين عملا بالأصل لأن أصل كلمة ( الصراط ) بالسين، وبدلت السين بالصاد لأجل الطاء. ومثل ذلك قراءة ( ملك يوم الدين ) بالألف؛ فإنها كتبت بغير ألف في جميع المصاحف؛ ففعل بها كما فعل باسم الفاعل.([10])

ومن ذلك ـ أيضا ـ قراءة ابن كثير في التوبة ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) بزيادة (من) فإنها لا توجد إلا في مصحف مكة. وكذلك فإن القراءات الشاذة قد تختلف في رسم المصحف العثماني، لكن المعلوم أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها. وكان الصحابة يقرؤون بما يخالف رسم المصحف، لكن بعد أن كتب القرآن الكريم حرم العلماء القراءة بما يخالف رسم المصحف، ذلك أن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن.([11]) ويمكن أن يكون سبب هذا التحريم هو نصهم على أن " كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالا، وصح سندها؛ فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها. ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة. ([12])

ولكن مما يدل على انتفاء هذا الرأي ـ فيما بحثت ـ أن الذي ذكر وجوب موافقة القراءة لرسم المصحف العثماني يناقض نفسه في ذلك ؛ فأبو شامة المقدسي يقول: " وأما ما يرجع إلى الهجاء وتصوير الحروف، فلا اعتبار بذلك في الرسم، فإنه مظنة الاختلاف . . . وقد خولف الرسم بالإجماع في مواضع من ذلك، كالصلوة والزكوة والحيوة، فهي مرسومات بالواو ولم يقرأها أحد على لفظ الواو. فليكتف في مثل ذلك بالأمرين الآخرين، وهما صحة النقل والفصاحة في لغة العرب " ([13])

وهكذا، نفهم مما سبق أن القراءة لم تكن واجبا على الأمة حتى يلتزم بها المسلمون، وإنما كانت تيسيرا من عند الله عليهم ليتمكن العرب جميعا من فهم النصوص القرآنية فهما سليما. ولكن بعد أن كتب القرآن الكريم بالرسم العثماني أصبح هناك إغفالا لعدد من القراءات والقراء؛ لذلك لا مندوحة لنا من تفصيل اختيار القراءات والقراء في قسم مستقل.

× إجماع الناس على القرّاء:

قد يتساءل المرء عن سبب شهرة القراء السبعة دون غيرهم حتى نسبت إليهم السبعة الأحرف مجازا ، وصاروا أشهر من الذين حملوا القراءات قبلهم ؟

وجواب ذلك أن الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد، كثيرا في الاختلاف. فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة في النقل وأجمع أهل مصره على ثقته فيما قرأ وروى ، وعلمه بما يقرئ به، ولم تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان رضي الله عنه مصحفا إماما، هذه صفته وقراءته على مصحف ذلك المصر. ([14])

وكان من هؤلاء القراء أبو عمرو بن العلاء من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة. ([15])

ويبقى لنا أن نتساءل عن هؤلاء القراء النحاة هل كانوا يأخذون آي القرآن الكريم ويتناقلونه دون أن يخضعوه لقواعد اللغة وأقيستها ؟ وحتى نجيب عن هذا التساؤل بد لنا من تخصيص قسمين: الأول، حول القياس. والثاني، حول النحاة الأوائل.



× القياس اللغوي:

ذهب عدد من العلماء إلى إلغاء الشاهد والقياس إذا كان الموضوع يتعلق بالنص القرآني، ومن ذلك أن الإمام أبا نصر الشيرازي حكى في تفسيره عند قوله تعالى : ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) في تضعيف قراءة الخفض. ثم قال ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم.([16])

ومن ذلك أيضا قول الإمام الحافظ أبو عمرو الداني عند ذكره إسكان ( بارئكم ، ويأمركم ) لأبي عمرو بن العلاء وأئمة القراء: لا نعمل شيئا في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية، إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، فلزم قبولها والمصير إليها. ([17])

ولكن عندما نقرأ قول ابن مجاهد: " قال لي قنبل قال له القواس في سنة سبع وثلاثين ومئتين: الق هذا الرجل ـ يعني البزي ـ فقل له : هذا الحرف ليس من قراءتنا. يعني ( وما هو بميت ) مخففا، وإنما يخفف من الميت من قد مات، ومن لم يمت فهو مشدد؛ فلقيت البزي فأخبرته، فقال لي: قد رجعت عنه." ([18])؛ فالذي يفهم من النص السابق أن قراءة البزي للفظة ( ميت ) مخففة كانت اجتهادية من عنده، وإلا لما عاد عنها وأخذ بالرأي المعلل؛ فالقواس لم يأخذ بقراءة (ميت) بالتشديد لأنها قراءة فحسب، بل ـ أيضا ـ لما ثبت لديه من صواب هذه اللفظة لغويا.
× النحاة القراء (*) :

قولنا: نحاة قراء. يدل أن هؤلاء النحاة لم يكتفوا بالقراءة وروايتها فقط، بل لا بد وأن علمهم في النحو كان له أثره في القراءة القرآنية من تعليل وإضفاء آراء يستمدونها من حصيلتهم اللغوية التي يعد القرآن الكريم جزءا منها. ومثال ذلك عندما سأل خالد الحذاء نصر بن عاصم: كيف نقرؤها ؟ قال: ( قل هو الله أحد. الله الصمد )، لم ينون. فأخبره خالد أن عروة ينون، فقال: بئسما قال، وهو للبئس أهل. قال خالد: فأخبرت عبد الله بن إسحاق بقول نصر بن عاصم فما زال يقرأ بها حتى مات.([19]) وهذه القراءة منسوبة إلى نصر بن عاصم وإلى أبي عمرو ابن العلاء، ويقول الفراء: والذي قرأ: ( أحد. الله الصمد )، بحذف النون من أحد، يقول: النون نون الإعراب، إذا استقبلتها الألف واللام حذفت، وكذلك إذا استقبلها ساكن، والتنوين أجود.([20])

وأول هؤلاء النحاة القراء هو أبو الأسود الدؤلي؛ فضبطه القرآن الكريم يدخل في لب النحو ويعد قراءة للقرآن الكريم. وقد تعاقب بعد أبي الأسود النحاة القراء الذين عرفوا بقراءات مشهورة، والذين تنامى النحو على أيديهم وتطور في ظل القراءات.([21]) وفي الصفحات التالية سنبين سلسلة هؤلاء النحاة القراء مقتصرين العرض لأهم آرائهم النحوية فيما يتعلق بالقراءات.

ـ يحيى بن يعمر ( 129 هـ ):

وقد احتج ابن جني لرأيه بقوله : " ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر ( ولولدي)000 الولد يكون واحدا ويكون جمعا 000 ومن كلام بني أسد : ولولدك من دمي عقبيك : أي ولدك من ولدته فسال دمك على عقبيك عند ولادته ، لا من اتخذته ولدا قريبا كان منك أو بعيدا . وإذا كان جمعا فهو ولد كأسد و أسد وخشبة وخشب ، وقد يجوز أن يكون الولد أيضا جمع ولد ، كالفلك فإنه جمع فلك . " ([22])

وقد خطأ البصريون قراءته ( أحسن ) بالضم ؛ على أنها اسم في قوله تعالى : ( ثم ءاتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ) ([23])، ويرون أن قياسها أن تكون فعلا لا أن تكون اسما ، أما الكوفيون فيرون جواز كونها اسما ،قال أبو حيان : " قال بعض نحاة الكوفة يصح أن تكون ( أحسن ) اسما وهو أفعل التفضيل وهو مجرور صفة للذي وإن كان نكرة من حيث قارب المعرفة إذ لا يدخله " ال " كما تقول العرب : مررت بالذي خير منك ، ولا يجوز : مررت بالذي عالم ، وهذا سائغ على مذهب الكوفيين في الكلام ، وهو خطأ عند البصريين .([24])

وقد كان يؤول في قراءاته إلى اللهجات؛ فمن ذلك أنه قرأ قوله تعالى: ( وقطعناهم اثنتي عشِـرة أسباطا)([25]) بكسر الشين من عشرة. وهي لهجة تميم.([26])، وقرأ قوله تعالى: ( هذه بضاعتنا ردت إلينا ) ([27]) بكسر الراء من (رُدّت) وهي لغة لبني ضبه. ([28])

ـ عبد الله بن أبي إسحاق ( 117 هـ ) :

ومن مجمل آرائه قراءة قوله تعالى : ( واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا )([29]). بفتح الهمزة وضم الدال الأولى وإسكان الثانية في لفظة ( أشدد )، و بضم الهمزة وإسكان الكاف في لفظة ( أشركه ) ، وقد وصفت هذه القراءة بالشاذ البعيد.([30])

وقرأ ابن أبي إسحاق ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ([31]) بنصب كلمة أطهر. وقد قال ابن جني: " ذكر سيبويه هذه القراءة وضعفها . . وإنما قبح ذلك عنده، لأنه ذهب إلى أنه جعل ( هن ) فصلا ـ وليست بين أحد الجزأين اللذين هما مبتدأ وخبر ونحو ذلك كقولك: ظننت زيدا هو خير منك، وكان زيد هو القائم. وأنا من بعد أرى أن لهذه القراءة وجها صحيحا، وهو أن نجعل (هن) أحد جزأي الجملة، ونجعلها خبرا لـ (بناتي) كقولك: ( زيد أخوك هو )، ونجعل ( أطهر) حالا من (هن) أو من (بناتي) والعامل فيه معنى الإشارة، كقولك: ( هذا زيد هو قائما أو جالسا أو نحو ذلك )، فعلى هذا مجازه ".([32])

ومن ذلك ـ أيضا ـ قراءته (من) قُبلُ و(من) دُبرُ. بثلاث ضمات من غير تنوين. قال ابن جني: " ينبغي أن يكونا غايتين كقول الله سبحانه: ( لله الأمرَ من قبلُ ومن بعدُ ) ([33]) كأنه يريد وقدّت قميصه من دبره، وإن كان قميصه قد من قبله، فلما حذف المضاف إليه أعني الهاء، وهي مرادة ـ صار المضاف غاية نفسه بعد ما كان المضاف إليه غاية له. وهذا حديث مفهوم في قول الله سبحانه: ( من قبل ومن بعد) فبني هنا كما بني هنالك على الضم.
ووكد البناء أن ( قبل ودبر) يكونان ظرفين ألا ترى إلى قول الفرزدق:
يطاعن قبل الخيل وهو أمامها ويطعن عن أدبارها إن تولت
وقال الله سبحانه: ( ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ) ([34])، فنصبه على الظرف وهو جمع دُبُر " .([35])

وقرأ قوله تعالى: ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) ([36]) بقطع الألف ورفع الشركاء، ذلك أنه " يعطف ( الشركاء ) على المضمر المرفوع وحسن العطف على المضمر المرفوع لأن الكلام قد طال ، وهذه القراءة تبعد ، لأنه لو كان مرفوعا لوجب أن يكتب بالواو وأيضا فإن شركاءكم الأصنام ، والأصنام لا تصنع شيئا . " ([37]).


ـ عيسى بن عمر الثقفي ( 149 هـ ) :

وكان للمفهوم النحوي أثر واضح في قراءته ، فكان يقرأ ( أقل ) مرفوعا في قوله تعالى : " إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا " ([38])، والمشهور النصب على أنه مفعول به ثان ، وقراءة عيسى بالرفع على أن ( أنا ) مبتدأ ( وأقل ) خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمفعول الأول الياء في ( ترن )، إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، ولو أثبتت لكان إثباتها على الأصل .([39])

ومن جملة آرائه قراءة قوله تعالى : ( ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة) ([40]) " برفع الثلاثة الأحرف، أي ( ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة)، فحذف المبتدأ وبقي الخبر" ([41]). ومن ثم فإن ابن جني يقيس على هذه القراءة فيقول: " ويجوز على هذا الرفع في قوله تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسولُ الله ، وخاتم النبيين ) ([42])، أي ولكن هو رسول الله. " ([43]).

وكان يقرأ ( الزانية والزاني ) ([44]) بالنصب. وعلل ذلك ابن جني بقوله: " وهذا منصوب بفعل مضمر أي اجلدوا الزانية والزاني، فلما أضمر الفعل الناصب فسره بقوله: فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة وجاز دخول الفاء في هذا الوجه لأنه موضع أمر، ولا يجوز زيدا فضربته لأنه خبر " ([45]). ومثل ذلك قراءته ( من نهار بلاغا ) ([46]) " على فعل مضمر أي بلغوا أو بلغوا بلاغا"([47]).
ـ أبو عمرو بن العلاء ( 154 هـ ) :

ومما قيل عن قراءته عندما " اختار قوم قراءة عاصم ونافع فيما اتفقا عليه. قالوا : قراءة هذين الإمامين أصح القراءات سندا وأفصحها في العربية، وبعدهما في الفصاحة قراءة أبي عمرو والكسائي." ([48])

ومن آرائه في القراءات ما حدثنا به محمد بن صالح، قال: " سمعت رجلا يقول لأبي عمرو كيف تقرأ ( لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد )، فقال : لا يعذب بالكسر. فقال له الرجل كيف وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يعذب ) بالفتح. فقال له أبو عمرو: لو سمعت الرجل الذي قال: سمعت الرسول عليه السلام ما أخذته عنه، وتدري ما ذاك ؟ لأني اتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة. قال الشيخ أبو الحسن السخاوي وقراءة الفتح أيضا ثابتة بالتواتر. قلت: صدق، لأنها قراءة الكسائي. وإنما أنكرها أبو العلاء لأنها لم تبلغه على وجه التواتر. ([49])

ومن ذلك ـ أيضا ـ أنه رفض قراءة : ( ما كان ينبغي أن نتخذ من دونك من أولياء ) ([50]) ببناء (نتخذ) للمجهول. قال:" لا نُتخذ، ولو كانت لحذفت (من) الثانية، فقلت: أن نُتخذ من دونك أولياء." ([51]).

وقد قرأ قوله تعالى: ( قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك) ([52])على خلاف رسم المصحف بقوله: (ليهب) فقلب الهمزة ياء.([53]) بينما كره قراءة بعض القراء لقوله تعالى: ( ولا تقربا هذه الشجرة ) ([54]) بكسر الشين، وقال: " يقرأ بها برابر مكة وسودانها " ([55]).
وكان يحتج بلهجة تميم فأجاز أن يرفع خبر ليس إذا انتقض نفيها بـ (إلا)، مثل: ليس الطيب إلا المسكُ. ([56]) وعندما سئل عن: يعلّمهم الكتاب. قال: أهل الحجاز يقولون: يعلّمهم، مثقلة. ولغة تميم: يُعلمهم.([57])

ـ أبو الحسن الكسائي ( 182 هـ ) :

لقد كان حسن النية عند النظر إلى قراءة غيره فهو يعلل قراءة مجاهد: ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم .. شهر رمضان) ([58]). على معنى: كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان.([59]) واضطر في قراءة أبي جعفر: ( ليجزي قوما) ([60]) أن يقدر لها محذوفا لا يقر به النحاة ظاهرا، وهو أن يجعل اسم المصدر نائبا عن الفاعل، والتقدير: ليجزي الجزاء قوما.([61])

وقال في معنى قوله تعالى: ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله)([62]): " وما كان هذا القرآن افتراء، كما تقول فلان يحب أن يركب ويحب الركوب" ([63]).

وقال ابن النحاس في تفسير قوله تعالى: ( أفمن زين له سوء عمله ) ([64]): " (من) في موضع رفع الابتداء، وخبره محذوف لما دل عليه، قال الكسائي: والذي دل عليه: ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) ([65]). والمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات، قال: وهذا الكلام عربي حسن ظريف لا يعرفه إلا القليل. والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية "([66]).
· من هؤلاء العلماء: أبو شامة المقدسي ( 665هـ )، وابن الجزري ( 833 هـ)
[1] البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (256 هـ)، صحيح البخاري، ج 6 ، طبعة استانبول، 1315هـ،د.ط، ص 100. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( البخاري : الصحيح )
[2] ابن الجزري، أبو الخير محمد بن محمد: تقريب النشر في القراءات العشر، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض،ط2، دار الحديث، القاهرة، 1992، ص 21. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( ابن الجزري : تقريب النشر )
[3] المقدسي، أبو شامة شهاب الدين عبد الرحمن: المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز، تحقيق: طيار آلتي قولاج، ط1، دار صادر، بيروت، 1975،ص 91. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( المقدسي : المرشد )
* انظر: الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان، م1، ط1، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، 1997، ص ص 357-361
[4] المقدسي : المرشد ، ص 147
[5] المقدسي: المرشد ، ص 50
[6] ابن الجزري : تقريب النشر ، ص 21
[7] ابن الجزري: تقريب النشر، ص 30
[8] ابن الجزري : تقريب النشر، ص 30
[9] المقدسي: المرشد، ص ص 153 - 154
[10] انظر: المقدسي: المرشد، ص 170 - 171
[11] ابن الجزري: تقريب النشر، ص 29
[12] المقدسي: المرشد، ص 147. انظر الخبر: ابن الجزري : تقريب النشر، ص23
[13] المقدسي: المرشد، ص 173
[14] المقدسي : المرشد، ص ص 155 -156
[15] المقدسي : المرشد، ص 157
[16] ابن الجزري: تقريب النشر، ص 39
[17] ابن الجزري : تقريب النشر، ص 40
[18] ابن الجزري: تقريب النشر ، ص 41
· انظر: ـ الحلواني، محمد خير: المفصل في تاريخ النحو العربي، ج1، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979، ص ص 93- 191
ـ دمشقية، عفيف: أثر القراءات القرآنية في تطور الدرس النحوي، ط1، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1978، ص ص 43-100
ـ الصغير، محمود أحمد: القراءات الشاذة وتوجيهها النحوي، ط1، دار الفكر، دمشق، 1999، ص ص 105 – 187
ـ محمود، محمود حسني : ملامح من قراءات النحاة الأوائل، بحث ضمن ( مجلة جامعة الملك سعود )، م2،الآداب 2، 1990، ص ص 593 – 617
ـ محمود، محمود حسني: قراءة عبد الله بن أبي إسحاق في الميزان، بحث ضمن ( مؤتة للبحوث والدراسات )، م5، ع2، 1990، ص ص 11-41
ـ محمود، محمود حسني: قراءة أبي عمرو بن العلاء، بحث ضمن ( دراسات )، م12، ع 3، 1985، ص ص 85 - 106
ـ مكرم، عبد العال سالم: القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية، دار المعارف، القاهرة، 1965، ص ص 62-86
ـ مكرم، عبد العال سالم: أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية، مؤسسة علي جراح الصباح، الكويت، 1978، ص ص 57-137
ـ الراجحي، عبده: اللهجات العربية في القراءات القرآنية، دار المعرفة الجامعية، السويس، 1998، ص ص 73-94
[19] السيرافي، أبو سعيد الحسن بن عبد الله: أخبار النحويين والبصريين، تحقيق: محمد إبراهيم البنا ، ط1، دار الاعتصام، القاهرة، 1985، ص 38. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( السيرافي : أخبار النحويين )
[20] السيرافي: أخبار النحويين، ص 39
[21] محمود: النحاة الأوائل، ص 594
[22] ابن جني، أبو الفتح عثمان(393هـ): المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، تحقيق: علي النجدي و عبد الفتاح شلبي، م1 ، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1969، ص 365. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( ابن جني : المحتسب )
[23] القرآن الكريم، سورة الأنعام ، آية 154 0 سيشار لاحقا للسورة ورقم الآية.
[24] محمود: النحاة الأوائل، ص 599. نقال عن: أبو حيان : البحر المحيط ، مج 4 ، ص ص 255 ـ 256
[25] الأعراف، 160
[26] انظر: ابن جني: المحتسب، م1، ص 261
[27] يوسف، 65
[28] ابن جني: المحتسب، م1، ص 346
[29] طه ، 29 ـ 33
[30] انظر : النحاس: أبوجعفر بن النحاس (388هـ)، إعراب القرآن ،تحقيق: زهير زاهد،م3، مطبعة العاني، بغداد ،1977 ، ص 337 . سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( النحاس: إعراب القرآن )
[31] هود ، 78.
[32] ابن جني، المحتسب، م1، ص ص 405-406
[33] الروم، 4
[34] ق ، 40
[35] ابن جني: المحتسب، م1، ص ص 420 – 421 .
[36] يونس 71
[37] ابن النحاس ، إعراب القرآن ، مج 2 ، ص 62
[38] سورة الكهف ، 39
[39] محمود: النحاة الأوائل: ص 611. نقلا عن : انظر : ابن النحاس ، إعراب القرآن ، مج 2 ، ص 276 .
[40] يوسف 111
[41] ابن جني: المحتسب، م1،ص 436
[42] الأحزاب 40
[43] ابن جني: المحتسب، م1، ص 436 .
[44] النور 2
[45] ابن جني: المحتسب، م2، ص 138
[46] الأحقاف 35
[47] ابن جني: المحتسب، م2، ص 332 .
[48] المقدسي: المرشد، ص 172
[49] ابن الجزري : تقريب النشر، ص 41
[50] الفرقان، 25
[51] النحاس : إعراب القرآن، م2، 460
[52] مريم 19
[53] انظر: ابن النحاس: إعراب القرآن م2، ص ص 307 –308 .
[54] البقرة 35
[55] ابن جني : المحتسب،م1، ص 73 .
[56] السيرافي: أخبار النحويين والبصريين، ص 43
[57] انظر: ابن جني: المحتسب، م1، ص 109.
[58] البقرة، 183
[59] انظر: النحاس: إعراب القرآن، م1، 237
[60] الجاثية 45
[61] النحاس: إعراب القرآن، م3، 228 .
[62] يونس 37
[63] ابن النحاس: إعراب القرآن، م2، ص 60
[64] فاطر 8
[65] فاطر 8
[66] ابن النحاس: إعراب القرآن ، م2 ، ص 286.