Friday, August 18, 2006

أبو حاتم السجستاني الراوية-

ــ المقدمة



للناظر في كتب الأدب العربي باحثا حول أبي حاتم السجستاني وأخباره صعوبة في تتبعها، ذلك أن تلك الأخبار متناثرة في مصادر الأدب العربي إذ نجد قراضات أخباره موزعة في هذه الكتب. ولا نجد من الدراسات التي تبحث حول أبي حاتم دراسة مستقلة إلا دراسة حديثة باسم: ( أبو حاتم السجستاني الراوية ) وهو كتاب ـ على ما فيه من أمانة وفائدة ـ لا يصل إلى منزلة أبي حاتم لتناثر الهنات فيه، وهذا هو قول صاحب الكتاب في مقدمة كتابه: " وأعلن كامل مسؤوليتي في هذا البحث، حيث أن المرض منع المشرف السابق من المتابعة الدقيقة لهذا البحث، وأن انتهاء المدة القانونية حال دون أن يتفحص المشرف الحالي الرسالة بدقة" ([1]).


وعند تتبعي لأخبار أبي حاتم في مصادره وجدت أنه حري لأي باحث ينشئ دراسة عنه أن يخصص له دراسة مفصلة قد تطول. ولكن لما كانت دراستي له ضمن بحث جامعي يوصف بالاقتضاب، كان البدّ من الاستغناء عن كثير مما جمعت، وتخصيص موضوع محدد حول أبي حاتم؛ فوجدت أهم ما يميزه أنه عالم راوية؛ فكان إنشاء هذا البحث على هذه الفكرة مستبعدا كل مادة لا تتصل بعلم أبي حاتم ورواياته.


وتبعا للمنهج الذي اتخذته في دراسة أبي حاتم بحثت في المواضيع التي تخدم علم أبي حاتم وروايته فقط؛ فكانت المواضيع التي دونتها في هذا البحث هي: ( أبو حاتم السجستاني : نسبه وشيوخه وتلامذته، وكتبه، وعلمه وخلقه، والرواية عند أبي حاتم السجستاني، ومنهج أبي حاتم في الرواية ).





أبو حاتم السجستاني:
× نسبه وشيوخه وتلامذته:

هو أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجُشَميّ السجستانيّ ([2])، وكان كثير الرواية عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري وعبد الملك بن قريب الأصمعي ([3]) ومحمد بن سلام الجمحي ([4]) ويعقوب بن اسحق الحضرمي([5]) و سعيد بن مسعدة الأخفش ([6]). ومن تلامذته : أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري ت275 هـ ([7]) وأبو محمد عبدالله بن مسلم ابن قتيبة ت 276 هـ([8]) وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد ت 285 هـ([9]) وأبو بكر محمد بن دُرَيد ت 321 هـ([10]).

× كتبه:

لأبي حاتم العديد من الكتب التي ألفها أو رواها عن شيوخه، ووجدنا عناوينها في كتب الأدب العربي ، ومنها:
ـ إعراب القرآن ، و ما يلحن فيه العامة ، و الطير ، والمذكر والمؤنث،والنبات ، والمقصور والممدود ، والفرق (*) ، والقراءات ، والمقاطع والمبادئ ، والفصاحة ، والنخلة ([11]) ، والأضداد ([12]) ، والقِسي والنبال والسهام ، والسيوف والرماح ، والدرع والترس، والوحوش، والحشرات ، والهجاء ، والزرع ، وخلق الإنسان ، والإدغام، واللبأ واللبن الحليب ، والكرم ، والشتاء والصيف ، والنحل والعسل ، والإبل ، والعشب، والخِصب والقحط ، واختلاف المصاحف ([13]) ، والإتباع ، والشوق إلى الأوطان ، و الحر والبرد والشمس والقمر والليل والنهار ([14]) ، والمختصر في النحو([15]) ، والخيل ([16]) ، وفعلت و أفعلت ([17]) ، والمعمَّرين ([18]) ، وسؤالات أبي حاتم السجستاني للأصمعي ([19]) .
× علمه وخلقه :

تتناثر أخبار أبي حاتم في كتب الأدب العربي تحدثنا عن علمه وأمانته في نشره، ولكننا نجد من يطعن عليه هذا العلم، فمثال ذلك ما خبرنا به السيرافي أنه كان " حسن العلم بالعروض وإخراج المعمَّى. ويقول الشعر الجيد، ويصيب المعنى، ولم يكن الحاذق في النحو 000 وكان إذا التقى هو والمازني في دار عيسى بن جعفر الهاشمي تشاغل أو بادر خوفا من أن يسأله المازني عن النحو".([20]) ، وتناقل عدد من العلماء (*) هذا الخبر مع ما يحمله من تناقض؛ ذلك أننا نقرأ في الكتاب نفسه قول أبي العباس عن أبي حاتم أن لو " قدم بغداد لم يقم له منهم أحد. وله كتاب في النحو " ([21]) ، وما ينقله ابن الأنباري من قول أبي العباس المبرد " سمعت أبا حاتم يقول: قرأت كتاب سيبويه على الأخفش مرتين " ([22]). فلا يستوي لدينا أنه لم يكن حاذقا بالنحو، ونحن نجد أن من يذكر الخبر يقول إنه كان يحفظ كتاب سيبويه ويرويه وقد ألف كتابا في النحو، فهنا لا مندوحة لنا من ترجيح صحة إحدى الروايتين ، وكي لا يكون ترجيحنا ظنيا سنتناول عدد من النصوص التي تحدثنا عن علم أبي حاتم في النحو وغيرها من العلوم.

يحدثنا الزبيدي في كتابه طبقات النحويين واللغويين أن ابن الغازي يقول: " كتب يعقوب الصفَّار والي سجستان ـ وكان متغلبا عليها، وكان في مُلك شديد ـ يسأل أبا حاتم نحوا مختصرا، فأراد أن يبعث إليه كتب الأخفش، فقيل له : لو أراد كتب الأخفش علِم مكانها وإنما أراد من قِبَلك، فبعث إليه كتابه المختصر في النحو المنسوب إليه، وهو على مذهب الأخفش وسيبويه". ([23])

ويذكر ابن علي اللغوي في كتابه مراتب النحويين " كان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان والنهوض باللغة والقرآن ، مع علم واسع بالإعراب أيضا، أخذ ذلك عن الأخفش ". ([24]) وهكذا، يثبت ـ فيما أرى ـ عدم صحة من قال : إن أبا حاتم لم يكن حاذقا بالنحو؛ فالذي يخشى مواجهة عالم في النحو، ويتهرب منه أولى له أن يبتعد عن علم النحو ولا يؤلف فيه، هذا إن لم يكن لديه علم كاف في النحو ومعرفة بأصوله، ولكن أبا حاتم كان يحفظ كتاب سيبويه ويقرأه على الأخفش. ولا ننسى أن ابن علي اللغوي والزبيدي والسيرافي قد عدوه من النحاة، وأدخلوه في طبقاتهم.

ومما يروى عن أبي حاتم أنه كان نحويا لغويا مقرئا، و كان إماما في علوم الآداب ([25])، ورث عن أبيه مئة ألف دينار، فأنفقها في طلب العلم وعلى أهله ، وكان إمام جامع البصرة ([26])، فقد كان صالحا عفيفا يتصدق كل يوم بدينار، ويختم القرآن في كل أسبوع ([27]). ولعل أشهر علم وسم به السجستاني هو علم القرآن والإقراء، فقد قال عندما سأله أحد الكوفيين : " من علماؤكم بالبصرة ؟ قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي، والمازني أعلمنا بالنحو، وهلال الرأي أفقهنا، والشاذكوني من أعلمنا بالحديث، وأنا ـ رحمك الله ـ أُنسب إلى علم القرآن ، وابن الكلبي من أكتبنا للشروط."([28])، وقال ابن الغازي : " أخبرني رجل من أهل البصرة قال: قلنا لأبي زيد: على من نقرأ بعدَك؟ قال: على سهل بن محمد ـ يعني أبا حاتم ـ قال: وكان يُزَنّ بنحو ما زُنّ به أبو عبيدة " ([29])

ومع كل ما ذكرناه عن أبي حاتم من عفة ونزاهة إلا أن صاحبنا اتُهم بميله إلى الغلمان، لقول ابن سهيل : " حضر معنا مجلس أبي حاتم غلام من بني هاشم، من آل جعفر بن سليمان، أحسن الناس وجها، فقال أبو حاتم:
نصبوا اللحم للبُزا ة على ذِرْوَتيْ عدَنْ
ثم لامُوا البُزاة أن خلعوا فيهمُ الرَسَـنْ
لو أرادوا عفافَنـا نقَّبوا وجهَه الحسَـنْ " ([30])
وقول أبي العباس المبرد : " أتيت السجستاني وأنا حدث، فرأيت بعض ما ينبغي أن تهجر حلقته له فتركته مدة ثم صرت إليه وعمّيت له بيتا لهارون الرشيد، وكان يجيد استخراج المعمّى، فأجابني :
أيا حسن الوجه، قـد جئتنـا بداهيـة عجبٍ في رجـــبْ
فعمّيـتَ بيتـا وأخـفيتَــه فلم يخفَ، بل لاح مثلَ الشُّهُبْ
فأظهر مكنُونه الطِّيطَــوى وهتَّـكَ عنـه الحمامُ الحُجَـب
فذلَّلَ ما كـان مُستصعَبــا لنـا، فتناولتُـه مــن كثَـبْ
أيا من إذا ما دَنــونا لـهُ نأى، وإذا مـا نأيْنـا اقتـربْ
عذرناك إذ كنت مُستحسَنـا وبيتُكَ ذو الطير بيـتٌ عَجَبْ
سلامٌ على النَّازح المُغتربْ تحيَّـةَ صـبٍّ به مُكتئــبْ " ([31])
وقول القفطي : " وكان أبو حاتم يتهم بحب الصبيان، وكان بريئا من ذلك؛ إنما كان كثير الدعابة " ([32])، وممن رد على هذه التهمة أيضا الزبيدي بقوله : " إلا أنه كانت فيه دُعابة، فكان ذلك مما يُوجَد به السبيلُ إليه " ([33])، " ولما علم السجستاني بما اتُهم قال :
" لا تظُننّ بي فجورا فما يَز كو فجورٌ بحامل القرآنِ
أنا عَفُّ الضمير غيرُ مُريبٍ غيرَ أني متيَّم بالحسـانِ " ([34])

ويذكر الحنفي براعة أبي حاتم في علم القرآن الكريم عندما جاءه رجل من أصحاب الحديث سائلا : " ما معنى قول الله جل وعز : ( إلا إبليس أبى ) ([35]) ؟ وما الإباء في كلام العرب ؟ قال: القدرة على الشيء والتركُ له من غير عجْز، قال: وما معنى قوله : ( وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة ) ([36]) ؟ هل يكون الناظر في كلام العرب بغير معنى الرائي ؟ قال: نعم، يكون بمعنى الانتظار، أما سمعت قوله تعالى : ( فنَظِرة إلى ميسَرة ) ([37]) ". ([38]) ، فمما نلحظه في هذا الخبر اتباع أبي حاتم لمنهج شيخه الأصمعي، فأبى أن يفسر آي الذكر الحكيم، واكتفى بالإجابة عن الأسئلة التي تلي الآيات، والتي تختص بالاستفهام عن لغة العرب وألفاظها.

وكان السجستاني دقيقا في نقل علمه، وذلك لقول أبي حاتم: " إذا فسرتُ حروف القرآن المختلف فيها وحكيتُ عن العرب شيئا فإنما أحكيه عن الثقات منهم، مثل: أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا ألتفت إلى رواية الكسائي والأحمري والأموي والفراء ونحوهم . وأعوذ بالله من شرهم ." ([39]). إذن، فإن أبا حاتم حريص عمن ينقل ؛ فهو يعد كثيرا من علماء الكوفة ما دون القيمة العلمية للاعتداد بآرائهم، فلا يأخذ عنهم. ولكن هل كان أبو حاتم حريص في نقل المادة المروية حرصه في انتقاء العلماء الذين يروي لهم ؟

ومما نجده من أخبار أبي حاتم نجد صدقه ـ أولا ـ في إبداء حكمه فيما يُعرض عليه، ومن ذلك أن رجلا مازح أبي حاتم بسؤاله : " ما تُسمي العربُ الرجل إذا كان في فرْد رجله خفّ وفي الأخرى نعل ؟ قال: لا أدري، قال: صدقت، لأن فوق كل ذي علم عليم؛ يقال له: مُخفَنْعل يا غلام. فضحك أبو حاتم حتى شرق بريقه. " ([40])، ونجد ـ ثانيا ـ حرصه على التأكد مما يقال له أو يسمع، ومن ذلك ما قاله ابن دريد: " سمعت أبا حاتم يقول : روي :
والشوق شاج للعيون الخذل
بالخاء المعجمة وهو تصحيف ، وإنما هو( للعيون الحذل ) بالحاء، وهو حمرة وانسلاق في جفن العين ، يقال : حذلت عينه ، وعين حذلاء. قال أبو حاتم : لا أدري أي شيطان فسر لهم هذا البيت فقال ( الخذل ) إذا بكى أصحابها خذلتهم فلم تبك معهم."([41])، وسيكون بيان رواية أبي حاتم ومنهجه في الرواية والنقل في القسم التالي.


× الرواية عند أبي حاتم السجستاني :

الرواية من أكثر المعارف تمييزا لأبي حاتم، ولم يكن ليصل إلى هذه المرتبة دون أن يكون لديه أمانة وثقة يكفيانه مجالسة العلماء وتلقينهم، فقد " قال ابن فارس: تؤخذ اللغة سماعاً من الرواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتّقى المظنون . . . إن النَّخارير ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللًّبْس والتَّعنت. قال ابن فارس: فليتحرَّ آخذ اللغة أهل الأمانة والصدق والثقة والعدالة، فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد ما بلغنا " ([42])، فالسمة الأولى للعالم الراوية هي الأمانة، وهي من أبرز صفات أبي حاتم لذلك قيل عن حكم " ما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة ،ولم ينقله أحد غيره، وحكمه القبول إن كان المتفرد به من أهل الضبط والإتقان ، كأبي زيد ، والخليل والأصمعي ، وأبي حاتم ، وأبي عبيدة ، وأضرابهم." ([43])

أما مصادر أبي حاتم في الرواية فهي متعددة؛ فمنها " الكتب وعلى رأسها القرآن الكريم والشيوخ والبادية والمساجد " ([44])، فالقرآن الكريم من أكثر ما اهتم به أبو حاتم حتى عد نفسه عالما في القرآن، وقد روي أن " أبا حاتم ختم على يعقوب سبع ختمات ـ ويقال : خمسا وعشرين ختمة ـ فأعطاه خاتمه ، وقال : أقرئ الناس." ([45]).

وتبرز الأهمية الكبرى لأبي حاتم في الرواية عن مشايخه، ولا سيما الأصمعي إذ كان يلزم مجلسه يدون ما يقول ويرويه عنه، فلا نكاد نقرأ ـ فيما بحثت ـ اسم الأصمعي إلا وقد اقترن بأبي حاتم؛ فمن ذلك قول ابن دريد: " حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن راوية كثير قال : كنت مع جرير ، وهو يريد الشأم ، فطرب ، فقال : أنشدني لأخي بني مليح ـ يعني كثيرا ـ فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله :
وأدنيتني حتى إذا ما استبيتنـي بقول يحل القصم سهل الأباطـح
توليت عني حين لا لي مذهب وغادرت ما غادرت بين الجوانح
فقال : لولا أنه لا يحسن لشيخ مثلي النخير لنخرت حتى يسمع هشام على سريره . ([46])، ولا تقتصر رواية أبي حاتم بنقل ما يسمع بل لقد روى عن شيخه ما يعد في باب المؤلفات، ومن ذلك: " قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني ، هذا باب فعلت وأفعلت، بمعنى واحد من عبد الملك بن قريب الأصمعي سألت عنه حرفا حرفا ." ([47])، ومن ذلك أيضا سؤالات أبي حاتم للأصمعي عن فحولة الشعراء قبيل موته، إذ سأله مرة : " من أول الفحول؟ قال: النابغة الذبياني، ثم قال : ما أرى في الدنيا لأحد مثل قول امرئ القيس :
وقاهم جدهم ببني أبيهم بالأشقّين ما كان العقاب
قال أبو حاتم: فلما رآني أكتب كلامه، فكر ثم قال: بل أولهم كلهم في الجودة امرؤ القيس، له الحظوة والسبق، وكلهم أخذوا من قوله واتبعوا مذهبه " ([48]).

وقد تدرب أبو حاتم على أن يكون دقيقا في الرواية، فلا يحتمل منه الخطأ ومن ذلك قوله : " قرأت على الأصمعي شعر المتلمس فسبقني لساني فأردت أن أقول :
أغنيت شأني فأغنوا اليوم شأنكم واستحمقوا في مراس الحراب أو كيسوا
فقلت: ( أغنيت شاتي ) فقال بالعجلة قبل رجوع لفظي: ( فأغنوا اليوم تيسكم إذا)."([49])، ولم يكن أبو حاتم يأخذ العلم عن شيخه دون تمحيص في جوانبه، وقبوله لمنطقه؛ فقد قال أبو حاتم: " كان الأصمعي ينكر زوجة ويقول إنما هي زوج ويحتج بقوله تعالى: ( أمسك عليك زوجك ) فأنشدته قول ذي الرمة:
أذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة أراك لها بالبصرة اليوم ثاويا
فقال : ذو الرمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين. " ([50])، أي أنه لا يعتد بكلامه لأنه خالط الحضر.

وقد روى أيضا عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، فقد قال: " حدثني أبو عبيدة قال: حدثني غير واحد من هوازن من أولي العلم وبعضهم قد أدرك أبوه الجاهلية أو جده." ([51])، وإن هذا لدليل بين على اتصال رواية أبي حاتم عن شيوخه امتدادا للعصر الجاهلي.

وقد قال أبو حاتم: " جئت أبا عبيدة يوما ومعي شعر عروة بن الورد، فقال لي : ما معك ؟ فقلت : شعر عروة. فقال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير . ([52])، ومن ذلك روايته كتاب (الخيل) الذي جاء في أوله : " حدثنا أبو يوسف الأصبهاني قال حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد المعروف بابن السجستاني قال حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي تيم قريش" ([53])، ومن ذلك أيضا قول أبي حفص " قال: أخبرنا أبو بكر الثعلبي ، عن أبي حاتم ، قال : قال أبو العلاء العماني الحرثي لرجل يرقص ابنته :
محكومة العينين معطاء القفـا كأنما قدت على متن الصفا
تمشي على متن شراك أعجفا كأنما تنشر فيه مصحفــا
فقلت لأبي العلاء: ما معنى قول هذا الرجل ؟ قال لا أدري : قلت : إن لنا علماء بالعربية لا يخفى عليهم ذلك. قال : فأتهم . فأتيت أبا عبيدة فسألته عن ذلك، فقال : ما أطلعني الله على علم الغيب ؛ فلقيت الأصمعي فسألته عن ذلك . فقال أنا أحسب أن شاعرها لو سئل عنه لم يدر ما هو. فلقيت أبا زيد فسألته عنه ،فقال : هذا المرقّص اسمه المجنون بن جندب ، وكان مجنونا ، ولا يعرف كلام المجانين إلا مجنون ،أسألت عنه أحدا . قلت : نعم ، فلم يوفه أحد منهم." ([54])، فهذه الحكاية تدلنا على مدى تثبت أبي حاتم مما يسمعه من أساتذته؛ فلا يتعصب لأستاذ بعينه، وإنما يغترف من بحر علومهم ما يجد فيه الدواء لشغف علمه إذ كان يكثر السؤال فيما يختلف عليه؛ فمن ذلك أن أبا حاتم قال : " سألت الأصمعي لم سميت منى منى ؟ قال : لا أدري . فلقيت أبا عبيدة فسألته ، فقال : لم أكن مع آدم حين علمه الله الأسماء؛ فأسأله عن اشتقاق الأسماء، فأتيت أبا زيد فسألته. فقال : سميت منى لما يمنى فيها من الدماء."([55])

وقد أخذ أبو حاتم من الأعراب ومنهم أم الهيثم ـ واسمها عثيمة؛ فقد سألها مرة: " هل تبدل العرب من الجيم ياء في شيء من الكلام ؟ فقالت : نعم، ثم أنشدتني :
إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى فأبعدكن الله من شيرات . " ([56])

ولا نريد أن يفهم القارئ مما نقلناه أن أبا حاتم ليس له دور سوى أن يأخذ عن الشيوخ وينقل لهم ـ مع أن هذه السمة من أبرز ميزات أبي حاتم ـ، إلا أنه كان حاذقا في الرواية، وله آراء تعتد بها كتب أدبنا العربي. ومن هذه الآراء والروايات:

" قال أبو حاتم: صحف الأصمعي في بيت أوس :
يا عام لو صادفت أرماحنا لكان مثوى خدك إلا حزما
يعني بالأحزم: الحزم الغليظ من الأرض . قال أبو حاتم : والرواة على خلافه وإنما هو الأحزم بالراء وهو طرف أسفل الكتف أي كنت تقتل فيقطع رأسك على أخرم كتفك."([57])

وقال أبو حاتم: " روى البغداديون في شعر الأعشى :
بناه قصي وحده وابن جـرهم
ثم قال أبو حاتم : هذا هو الحبل ، أيقول أحد : ( رأيت زيدا وحده وعمرا ) ؛ وإنما الرواية : بناه قصي والمضاض بن جرهم. " ([58])

وقال ابن دريد : " سمعت أبا حاتم ينشد :
وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد
وقال : لا ينشد ( أعيت ) ؛ إنما هو على لغة من قال : عيّ وحيّ . وقوله :
إلا لمثلك أومن أنت سابقه سبْق الجواد إذا استولى على الأمد
يروى (إذا استومى ) و( إذا استولى ) وهما سواء ، معناهما : غلب عليه." ([59])

وقال أبو الحسن لأبي حاتم : " ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث قال : قلت: قد صنعت فيه شيئا . قال: فما تقول في الفردوس. قلت : مذكر . قال: فإن الله تعالى يقول : ( الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) قال : قلت:ذهب إلى الجنة فأنث. قال أبو حاتم فقال لي النوزي : يا غافل ما سمعت الناس يقولون أسألك الفردوس الأعلى . فقلت له : يا نائم ،الأعلى ههنا أفعل لا فُعلى. " ([60])



× منهج أبي حاتم في الرواية:

النقل عند الرواية إما أن يكون نقلا حرفيا، حيث لا تظهر فيه شخصية الراوية، وليس له فضل سوى الأداء، وإما أن يكون فيه تدقيق وتمحيص وتوثيق لما يرويه، فينقل ما صح عنده ويطرح ما خالف العقل والمنطق، وإما أن يكون فيه تصحيح للمرويات ونقد لها. ([61])

ومما أوردناه من أخبار أبي حاتم في الرواية وجدنا فيها أن أبا حاتم كان راوية أمينا، ولكن لم نجده ناقلا فحسب ـ وإلا اكتفينا بما لديه من كتب ـ، بل كان يفرض نفسه في مروياته أو عمن يروي، فيدقق ويحاول التثبت من معانيها؛ فيخطئ الرواية إذا وجد بها خطأ، ويعدل في روايتها إن اقتضى الأمر.

وللرواة عند الأداء والرواية أساليب وصيغ " أعلاها أن يقول : أملى علي فلان ، أو أملّ علي فلان." ([62]) أو أن يقول عند الرواية: " قرأت على فلان."([63]) أو " قرئ على فلان وأنا أسمع ."([64]). وعند النظر في مرويات أبي حاتم نجد وضوح الإسناد في كلامه؛ فمن ذلك قول إبراهيم بن حميد قال : " حدثنا أبو حاتم السجستاني قال : حدثنا محمد بن عباد المهلبي عن أبيه : سمع أبو الأسود رجلا 000 " ([65])، وقوله: " سمعت أبا حاتم يقول : سمعت أبا عبيدة يقول : اختلفت إلى يونس أربعين سنة، أملأ كل يوم ألواحي من حفظه." ([66]) ، وقول أبي حاتم : " حدثنا أبو الأسود التوشجاني، عن العمري، عن أبي عمرو الشيباني 000 " ([67])، وغير هذه الأخبار كثير مما يدل على نزاهة أبي حاتم وأمانته في الرواية حتى يمكن أن نعدها ـ فيما أرى ـ نهجا سار عليه واقتداه. إلا أننا نجده ـ أحيانا ـ يقول : " وقال أعرابي" ([68])، ويقول: " قالوا " ([69])، دون أن يذكر عمن يأخذ. وتعليلنا ذلك أن أبا حاتم رضي رواية من يأخذ عنهم، فهو يعد الأعراب أهل لغة يجوز الأخذ عنهم ولذلك لم يذكر سندا، أما لفظة ( قالوا ) فتدل على أنه يحدّث عن علماء قد يكونون من المسجديين، أو ممن سمع روايتهم في أحد المجالس؛ فارتضاها.



[1] الزبيدي : أبو حاتم السجستاني ، ص 7
[2] انظر: - الذهبي ، الحافظ شمس الدين محمد بن عثمان: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، حوادث وفيات 241 – 250 هـ ، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1991، ص 28. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: (الذهبي: تاريخ الإسلام)
- ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج2، ط1، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1930، ص 332. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة )
- الزبيدي، أبو بكر محمد بن الحسن: طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعارف، القاهرة، د.ت، ص 94. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( الزبيدي : طبقات النحويين )
- القفطي، جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف : إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم، ج2، ط1، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1952، ص 58. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( القفطي : إنباه الرواة )
- السيرافي، أبو سعيد الحسن بن عبدالله : أخبار النحويين البصريين، تحقيق: محمد إبراهيم البنا، ط1، دار الاعتصام، 1985، ص 102. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( السيرافي : أخبار النحويين )
- السيرافي، أبو سعيد الحسن بن عبدالله : أخبار النحويين البصريين، تحقيق: فرينس كرنكو، ضمن نشرات معهد المباحث السرقية ج9 ، المطبعة الكاثوليكية، بيروت ، 1936 ، ص 93 . سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ:(السيرافي: أخبار النحويين(كرنكو))
- اللغوي، أبو الطيب عبد الواحد بن علي: مراتب النحويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة نهضة مصر، القاهرة، 1968، ص 80. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( اللغوي : مراتب النحويين )
- ابن الأنباري، أبو البركات كمال الدين: نزهة الألباء في طبقات الأدباء، تحقيق: إبراهيم السامرائي، ط3، مكتبة المنار، الزرقاء، 1985، ص 145 . سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ:(ابن الأنباري: نزهة الألباء )
- ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر : وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، م2 ، دار الثقافة ، بيروت ، 1996 ، ص 430 . سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( ابن خلكان: وفيات الأعيان )
- الفيروزأبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب : البلغة في تاريخ أئمة اللغة ، ضبط: بركات يوسف هبود، ط1، المكتبة العصرية، بيروت ، 2001 ، ص 86. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( الفيروزأبادي : البلغة )
[3] القفطي: إنباه الرواة، ص 58 . انظر الخبر: السيرافي: أخبار النحويين، ص 102
[4] اللغوي: مراتب النحويين ، ص 67
[5] الزبيدي: طبقات النحويين، ص 76
[6] اللغوي: مراتب النحويين ، ص 80
[7] ابن الأنباري: نزهة الألباء، ص 211
[8] ابن الأنباري: نزهة الأباء، ص 209
[9] القفطي: إنباه الرواة،ج2، ص 58. ابن خلكان: وفيات الأعيان ،م2، ص 430
[10] الفيروزأبادي: البلغة ، ص 87
* ورد في إنباه الرواة بعنوان ( الفرق بين الآدميين وكل ذي روح ) ، انظر : القفطي : إنباه الرواة ، ج2 ، ص 62
[11] السجستاني، أبو حاتم سهل بن محمد: كتاب النخل، تحقيق: إبراهيم السامرائي، ط1، مؤسسة الرسالة، بيروت ، 1985. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( السجستاني : النخل )
[12] السجستاني، أبو حاتم سهل بن محمد: الأضداد، ط1، نشر: أوغست هفنر، دار المشرق، بيروت، 1912.
[13] ابن خلكان : وفيات الأعيان ، م2، ص ص 432 - 433
[14] القفطي : إنباه الرواة ، ج2 ، ص ص 62 - 63
[15] الزبيدي: طبقات النحويين ، ص 94
[16] ابن المثنى، أبو عبيدة معمر: كتاب الخيل، ط2، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، 1981. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( ابن المثنى: الخيل )
[17] السجستاني، أبو حاتم سهل بن محمد: فعلت وأفعلت ، تحقيق: خليل إبراهيم العطية ، جامعة البصرة ، البصرة ، 1979. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( السجستاني : فعلت وأفعلت )
[18] السجستاني، سهل بن محمد : كتاب المعمرين ، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط1، مؤسسة المعارف، بيروت، 1997. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( السجستاني : المعمرين )
[19] الأصمعي، عبد الملك بن قريب: سؤالات أبي حاتم السجستاني للأصمعي ورده عليه فحولة الشعراء، تحقيق: محمد عودة سلامة، ط1، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، 1994. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( الأصمعي: سؤالات )
[20] السيرافي: أخبار النحويين، ص ص 102 - 103
* منهم : القفطي في : إنباه الرواة، ص 59، وابن الأنباري في: نزهة الألباء، ص 146، وابن خلكان في: وفيات الأعيان، م2، ص 431
[21] السيرافي: أخبار النحويين، ص 102
[22] ابن خلكان: نزهة الألباء، ص 146
[23] الزبيدي: طبقات النحويين ، ص 94
[24] اللغوي: مراتب النحويين ، ص 80
[25] ابن خلكان: وفيات الأعيان، م2، ص 430
[26] الفيروزآبادي : البلغة ، ص 87
[27] ابن خلكان : وفيات الأعيان، م2 ، ص 431
[28] ابن خلكان : وفيات الأعيان، م2 ، ص 432
[29] الزبيدي : طبقات النحويين ، ص 95
[30] اللغوي : مراتب النحويين ، ص 81
[31] السيرافي : أخبار النحويين ، ص 103
[32] القفطي: إنباه الرواة ، ص 60
[33] الزبيدي : طبقات النحويين ، ص 95
[34] اللغوي : مراتب النحويين ، ص 80
[35] القرآن الكريم، سورة البقرة : آية 34 ، سورة الحجر : آية 31 ، سورة طه : آية 116. سيشار للقرآن الكريم لاحقا باسم السورة ورقم الآية الكريمة.
[36] سورة القيامة : آية 22 - 23
[37] سورة البقرة : آية 280
[38] الزبيدي : مراتب النحويين ، ص ص 81 - 82
[39] السيوطي، عبدالرحمن جلال الدين: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرح: محمد المولي وعلي البيجاوي ومحمد أبو الفضل، ط1، ج2، دار إحياء الكتب العربية، 1964، د.م، ص 256. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ: ( السيوطي : المزهر )
[40] اللغوي : مراتب النحويين ، ص 82
[41] العسكري، الحسن بن عبد الله : شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف ، تحقيق : السيد محمد يوسف، ط1، ج1، مجمع اللغة العربية ، دمشق ،، د.ت ، ص ص 243 – 244. سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ (العسكري: التصحيف)
[42] السيوطي: المزهر ، ج1، ص ص 137 - 138
[43] السيوطي : المزهر ، ج1، ص 129
[44] الزبيدي، سعيد جاسم: أبو حاتم السجستاني الراوية، ط1، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان، 1998، ص 70. وسيشار إلى هذا المرجع لاحقا بـ : ( الزبيدي: أبو حاتم )
[45] اللغوي : مراتب النحويين ، ص 78
[46] السيوطي : المزهر ، ج1، ص 150
[47] السجستاني : فعلت وأفعلت، ص 87
[48] الأصمعي : سؤالات ، ص ص 29 - 30
[49] العسكري : التصحيف والتحريف ، ج1 ، ص 144
[50] السيوطي : المزهر ، ج2، ص234
[51] السيوطي : المزهر ، ج2 ، ص 316
[52] السيوطي : المزهر ، ج1، ص 161
[53] ابن المثنى : الخيل ، ص 1
[54] السيوطي: المزهر، ج1 ، ص ص 140 –141
[55] السيوطي : المزهر ، ج1، ص 353
[56] السيوطي : المزهر ، ج1، ص 475
[57] السيوطي : المزهر ، ج2 ، ص 223
[58] العسكري : التصحيف والتحريف ، ج1 ، ص244
[59] العسكري : التصحيف والتحريف ، ج2، 320
[60] السيوطي : المزهر، ج2 ، ص 237
[61] الزبيدي : أبو حاتم ، ص 128
[62] السيوطي : المزهر، ج1 ، ص 144
[63] السيوطي : المزهر، ج1 ، ص 158
[64] السيوطي : المزهر، ج1 ، ص 161
[65] اللغوي : مراتب النحويين ، ص 8
[66] اللغوي : مراتب النحويين ، ص 21
[67] السجستاني : المعمرون ، ص 21
[68] السجستاني : النخل ، ص 73
[69] السجستاني : المعمرون، ص 31