Tuesday, August 22, 2006

فضاء المفارقة والفضاء المكاني في المقامة البغدادية

¨ فضاء المفارقة والفضاء المكاني في المقامة البغدادية.([1]


عند دراسة المفارقة في ضوء النظرية المكانية لا بد عندها من التنبه إلى تفصيلات المكان وتنوعها؛ فأي وصف مكاني بسيط أو غير ظاهر في النص ويعتبره الآخرون أمرا اعتياديا قد يكون المفتاح الذي يسقطنا في هالة مليئة بالمفارقات التي ينبغي على المرء أن يستثمر تنوعها، ويوظفها بما يخدم النص.([2]) ولا ننسى ـ أبدا ـ أن هذا الاتساع في أفق المفارقة هو الذي يخلق المتعة في قراءة النص، إذ إن هذه المتعة لا تنتهي باكتشاف المفارقة، ولكن المتعة في تحريك هذه المفارقة الشخصيات لتتشكل مفارقات متسلسلة، وهكذا دواليك.

والنص الجيد لا يضع أمامنا مفارقة وينتهي بانتهائها، ولكن جودة النص ـ فيما أرى ـ تتمثل في اعتماده على تنوع مستويات راقية للمفارقة، وهذا كلام لا يقودنا إلى إلزامية تمتع النص بتعددية أنواع المفارقة([3])؛ فقد نجد نصا يحتوي على نوع واحد من المفارقة، وهذا يكفي. ولكن تتمثل جودة أسلوب الكاتب في طريقته التي يدعم فيها هذا النوع من المفارقة بمفارقات إضافية تقوم على رفع مستوى المفارقة الرئيسة في النص، كما هو الحال في عديد من المقامات التي قدمها الهمذاني والحريري. ومن أمثلة ذلك الحكاية التي يشكلها الهمذاني في المقامة البغدادية صانعا مفارقة رئيسة هي مفارقة الأحداث.



ـ مفارقة الأحداث:

تتمثل أحداث المقامة بأن عيسى بن هشام اشتهى الأزاذ وهو ببغداد، ولم يكن يملك مالا، فذهب إلى الكرخ علّه يجد فرصة في الحصول على ما يشتهي، فإذا بسوادي يسوق حماره. فقال عيسى بن هشام: ظفرنا والله بصيد. فأقبل عليه يقول: حياك الله أبا زيد. ويسأله عن أحواله. والسوادي يقول: لست بأبي زيد، ولكني أبو عبيد. فادّعى عيسى بن هشام نسيانه لبعد الاتصال به، ثم سأله عن حال أبيه؛ فأجاب بأنه انتقل إلى رحمة الله وجنته. فمدّ عيسى بن هشام يديه إلى ثوبه يريد تمزيقه ليوهم السوادي أنه حزين على فقدان هذا الأب. فناشده السوادي بالله أن لا يمزقه. وليحصل عيسى بن هشام على مراده دعا السوادي إلى الغذاء وخيّره بين الذهاب إلى البيت أو السوق، ورجح السوق لأن طعامه أطيب وأقرب.

وهنا نلمح أن المفارقة عنصر بارز في التحرك المكاني؛ فالشخصية الراوية موجودة في بغداد، وتنتقل إلى الكرخ ثم تسعى للذهاب إلى السوق. وحتى يحصل الراوي على الطعام؛ فإنه يستكمل صنع المفارقة التي تتخذ جغرافية واسعة فضاء مكانيا لها.

وقد طمع السوادي عندما دعي إلى الشواء، ولما يعلم أنه وقع ضحية حيلة عيسى بن هشام الذي جاء إلى الشوّاء وتخير أجود ما لديه من أطعمة، ثم ذهب إلى صاحب الحلوى وطلب وزن رطلين من اللوزينج. ثم شمر الاثنان عن ذراعيهما حتى استوفيا الطعام. وهنا أنهى عيسى بن هشام دوره، وحصل على مراده من الطعام؛ فقال للسوادي: " يا أبا زيد ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج ليقمع هذه الصارة ويغثأ هذه اللقم الحارة. اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقاء." ([4]) ثم خرج وجلس في مكان يخوله من رؤية السوادي حيث لا يراه؛ فلما أبطأ عليه قام السوادي إلى حماره، فاعتلق الشواء بإزاره. وسأله عن ثمن ما أكل فأجاب بأنه ضيف؛ فلكمه لكمة، وثنى عليه بلطمة فجعل السوادي يبكي ويقول: " كم قلت لذاك القريد. أنا أبو عبيد. وهو يقول: أنت أبو زيد " ([5]) .

إذن، تتمحور مفارقة الأحداث حول صانع المفارقة عيسى بن هشام الذي يشكل نص المفارقة: الأحداث التي كان لصانعها الدور الأكبر في توجيهها، ذلك أن فكرة المفارقة كانت بمثابة إلهام تنزل على عيسى بن هشام، ليصبح الشخصية العليمة في النص فيتخذ خطوات محددة ليوجه الأحداث حتى تنطلي المفارقة في النهاية على الضحية (الرجل السوادي). وكان السوادي ( ضحية المفارقة ) المغلوب على أمره، فخدعه عيسى بن هشام وأجرى مفارقته عليه؛ ثم أقرّ في النهاية بانطلاء الحيلة عليه. ويمكن أن نقرأ أحداث هذه المقامة قراءات تأويلية فينفتح النص على أنواع أخرى من المفارقة نجملها في الصفحات التالية.


ـ تعدد المفارقات:

عند التدقيق في مسار أحداث المقامة يتولد لنا عدد من المفارقات؛ فتظهر المفارقة الدرامية في النص عند محاولة عيسى بن هشام تمزيق ملابسه حزنا على وفاة والد السوادي، ونجح عيسى بن هشام في إتمام مفارقته بعد أن انطلت الحيلة على السوادي. وهنا لا مندوحة من الإشارة إلى أن نجاح عيسى بن هشام في مفارقاته لأنه استحضر شخصية صانع المفارقة (المحتال) والذي يسمى ( الألازون )([6])، وكانت هذه المفارقات سهلة متيسرة التنفيذ لأن الضحية التي اختارها عيسى بن هشام رجل ساذج من القرية لا دربة له في أمور المدينة، ولا خبرة عنده في حيلهم.
وتظهر في نهاية المقامة مفارقة لغوية على لسان السوادي تمثل انخداعه وسذاجته بقوله: ( كم قلت لذاك القريد. أنا أبو عبيد. وهو يقول: أنت أبو زيد.)، فيدل ظاهر النص أن الرجل مستاء من فعل عيسى بن هشام، وموضع استيائه أن عيسى بن هشام أصرّ على معرفته السوادي، لتكون هذه الجملة السردية تلخيصا يجمل أحداث المقامة، وتفسر سلوك عيسى بن هشام وإصراره على معرفة السوادي. إلا أن النص يخفي مفارقة مغايرة لظاهره هي مفارقة خداع النفس فلولا طمع السوادي ومحاولة استغلال الجانب الإنساني لدى عيسى بن هشام لما انطلت عليه الحيلة، فوضع اللوم في نهاية المقامة على عيسى بن هشام، وأغفل جانبا مهما هو أن أحداث المقامة ما كانت لتتم لولا غفلته وسذاجته. وهذا يقودنا إلى مفارقة جديدة تشكلت في النص هي مفارقة الشخصيات وأثرها في تشكيل مفارقة السرد.


ـ مفارقة الشخصيات ومفارقة السرد:

تتنوع الشخصيات في هذه المقامة بين شخصيات رئيسة فاعلة في النص، وشخصيات ثانوية. والشخصيات الرئيسة الموجودة في النص هي:

ـ شخصية عيسى بن هشام الرجل الحاذق الذي تجاوز حد السلوك الإنساني؛ فكان كالصياد الذي يتخير فريسته فيضع الخطة المناسبة لاستغلال جانب إنساني لدى أهل السواد ( القرى ) هو سذاجتهم وثقتهم الزائدة في الناس.

ـ شخصية السوادي الرجل الطيب الذي يبدو عليه انغلاب الحال، ذلك أنه يسوق حماره بكدّ وجهد فدلّ مظهره على سوء حاله، ناهيك عن طبيعة اللباس الذي يرتديه فهو يلبس إزارا يرد فيه أحد طرفيه على الآخر بما يعقد بينهما، فاستخدم عقدة لربط طرفي الإزار؛ مما يدل على سوء حاله إذ لم يستخدم رباطا لشد طرفي الإزار.

وظهرت هذه الشخصية في النص على أنها الشخصية الضعيفة التي انطلت عليها مفارقات عيسى بن هشام، فكانت منقادة لكلامه تتوجه حيثما توجه وتتبع تعليماته، ونجد ذلك عندما قال له عيسى بن هشام: " اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقّاء." ([7])؛ فجلس السوادي ولم يطاوع مكانه إلى أن أطال الإبطاء عليه. وظهرت سذاجة السوادي عندما حاول خداع عيسى بن هشام للحصول على الطعام وقبول دعوة الغذاء إلا أن السوادي ضحية مفارقة لا صانعها؛ ففشلت محاولته.

وتظهر لنا شخصية رئيسة غير فاعلة في النص وهي شخصية الكاتب الهمذاني عندما قال: " حدثنا عيسى بن هشام " ([8])؛ فتشير لفظة ( حدثنا ) إلى سارد يضمن كلام سارد آخر، ليصبح هذا النمط نوعا من التبئير السردي، فيتضمن فيه حكاية داخل حكاية.

وهناك عدد من الشخصيات الثانوية التي ورد ذكرها في النص؛ أهمها شخصية الشوّاء الذي احتال عيسى بن هشام عليه، وترك السوادي وراءه حتى يأخذ بحقه منه؛ فظهرت لنا مفارقة الغفلة عندما قال السوادي للشواء: " أكلته ضيفا" ([9])؛ فغضب الشواء من هذه السذاجة ظنا أنها طريقة في الاحتيال، فلكمه حتى أخذ المال. وجملة ( أكلته ضيفا ) تحمل مدلولين، الأول، أن السوادي قد أكل الطعام ضيفا، ولا ينبغي له أن يتحمل تبعاته؛ فكانت محاولة لخداع الشواء لكن الحيلة فشلت لأن السوادي وقع ضحية حيلة أقوى هي حيلة عيسى بن هشام. والثاني، أن الشوّاء رجل يسعى لرزقه ولا يهتم إلا بتقديم الطعام في أفضل صوره ليحصل على ثمنه، ولذلك عامل السوادي بشدة عندما حاول استغفاله.

ومن الشخصيات الثانوية أيضا: صاحب الحلوى، والسقّاء الشخصية الوهمية التي اختلق عيسى بن هشام وجودها فكانت حجة لهربه، ووبالا على السوادي الذي قصمت الحيل ظهره.

ومما نلحظه في بناء الكاتب لشخصيات المقامة أنه أنشأ صراعا بين عيسى ابن هشام والسوادي، لكن عيسى بن هشام ظهر في النص على أنه الشخصية العليمة، فكان رجوح الانتصار لعيسى بن هشام حتى يكون العنصر الفاعل في تشكيل أحداث المقامة، الأمر الذي كان له أثره في أسلوب السرد؛ فكثر السرد بأسلوب الشرح والتوضيح والوصف على لسان عيسى بن هشام لأنه يريد خداع السوادي. وأما جمل السوادي السردية فكانت مختصرة إذ تكلم السوادي في أربعة مواضع فقط؛ عندما ردّ بأن اسمه أبو عبيد وليس بأبي زيد، وعندما خبر عيسى ابن هشام عن موت أبيه ثم مناشدته إياه أن لا يمزق ثوبه، ثم في النهاية ما دار بينه وبين الشواء. بينما يصور النص أفعالا متعددة للسوادي من سوقه الحمار بجهد، ومن قبضه يدي عيسى بن هشام أن لا يمزق الثوب، ثم أفعاله في السوق من تناوله للطعام فأكله الحلوى ثم انتظاره السقاء.

هكذا؛ فإن مقارنة زمن النص بين وجود شخصية عيسى بن هشام والسوادي تنبئ بأن زمن النص يغلب عليه وجود شخصية عيسى بن هشام الأمر الذي يدل على أهمية هذه الشخصية في الحكاية ليتهيأ لنا أن الهمذاني نقل تحكمه في أحداث الحكاية عن طريق عيسى بن هشام الذي ظهرت سلطته في تحريك الشخصيات في المكان، وأثر التحرك في المكان على سلوكها.

وعند النظر إلى تنوع المفارقات في النص السردي، وعلاقة هذا التنوع بتشكل فضاء مكاني، نلمح عندها عددا من الثنائيات الضدية؛ فالمكان عند عيسى ابن هشام كان مكانا سلبيا ثم تحول إلى مكان حميمي؛ إذ إنه بادئ الأمر كان يشعر بالجوع فأسقط ما يشعر به من انكسار نفسي على المكان، فجعله سلبيا، ثم هرب من سلبية المكان بحثا عن إيجابيته. وهنا لا بد من تضاد المكان حتى يحدث التعديل المطلوب في نفسية عيسى بن هشام، وهذا ما جعله يلجأ إلى مكان يكثر الطعام فيه، فذهب إلى الكرخ اشتهاء للأزاذ ثم ذهب إلى السوق، وتخير أماكن بيع الطعام فيه؛ فقصد الشواء وبائع الحلوى ثم قصد مكانا ليتناول الطعام. والذي يظهر في النص أن محال بيع الطعام توفر أمكنة ليتناول المشترون الطعام، ودليل ذلك أنه لم يدفع ثمن الطعام إلا بعد المغادرة، وأن الشواء كان يراقب المكان الذي يأكلون فيه، ولذلك أمسك بالسوادي عندما حاول الهرب قبل أن يدفع.

وفي نهاية الحكاية يلتجئ عيسى بن هشام إلى مكان يختبئ فيه من السوادي، وفي الوقت ذاته يراقب نجاح حيلته؛ والسبب أنه استلذ بالطعام ووجوده في أماكن يكثر فيها الأطعمة، لكن اللذة لا تكتمل إلا عند رؤية أثر نجاح الحيلة على السوادي.

وأما المكان في نظر السوادي فهو حميمي منذ بداية الحكاية إذ إنه انتقل من قرى العراق ذات الفضاء المكاني المحدود إلى مكان جغرافي أكثر تحضرا وازدهارا ليتشكل الفضاء المكاني في أوسع صوره. وازدادت ألفة المكان عند السوادي عندما دعي إلى الغذاء فأصبح المكان أكثر حميمية وألفة لأن السوادي انتقل من المشاهد والمعاين ليصبح عنصرا فاعلا في المكان؛ فهو يتحرك في هذه الأماكن متمتعا بأطايب الطعام الموجودة في السوق ليصبح هذا المكان ملاذا يهرب فيه من تعبه وجهده، وسرعان ما ينشب المكان أظفاره ليصبح مكانا معاديا يتعرض السوادي فيه إلى الضرب والإهانة والخداع. فيكون المكان تبعا لهذا الوصف عنصرا مؤثرا ومتأثرا في الإنسان؛ فوجود أماكن الطعام في السوق أثّر في شخصيات المقامة وتحركهم، وسلوك الشخصيات أثّر في نظرتهم لطبيعة المكان، فنقلوا إليها سلبيتهم وإيجابيتهم.

وأمر بيّن أن المقامة استمدت مظاهرها الحيوية من المكان؛ فكان المكان عاملا جوهريا في إنشاء الأحداث وتحريك الشخوص في الرقعة المكانية، ووجود أماكن الطعام وبيع التمر والشواء والحلواء في السوق دفعت لتشكل الرغبة النفسية لدى الشخصيات؛ فيبرر عيسى بن هشام غايته في الاحتيال على السوادي، ويبرر السوادي ـ ضمنا ـ قبوله دعوة عيسى بن هشام. وتبعا لهذا التناغم النصي لا مندوحة لنا من الوقوف على الظواهر الحضارية والإنسانية التي تشكلت ضمن هذا الفضاء المكاني.


ـ مظاهر الفضاء المكاني:

لا يخفى على القارئ أن تفاعل شخصيتي المقامة الرئيستين تمّ على جغرافية مكانية واسعة بما يحويه المكان من فضاء محيط به، لتحاول كل من الشخصيتين إتمام نص مفارقتها على الشخصية الأخرى، فلم يتأثر المكان وحده بحيلهما، وإنما شذور هذه الحيل انتقلت لتتفاعل مع محيط المكان الفضائي؛ فظهر ـ تبعا لذلك ـ عدد من الأشكال الحضارية كأنواع الأطعمة، والأعمال التجارية التي تتم في السوق من بيع وشراء، واهتمام أهل السوق بتجارتهم. وفي المرتبة الأولى نقول: إن تفاعل الشخصيتين ـ فيما بحثت ـ عكس جانبا إنسانيا وسلوكيا ينمّ عن فطرة الناس البشرية، ولسان حالهم في ذلك الوقت.

ولقد جلّت الجمل السردية التي حملت الوصف المكاني أبعادا حضارية، ويمكن لنا أن نربط علاقة بين الصورة الحضارية في النص والطبيعة البشرية لشخصيات المقامة؛ فقول عيسى بن هشام أول المقامة: ( اشتهيت ) لفظة تدل على جوع راوي المقامة مما جعل الأنماط السردية في المقامة تتشكل وفقا لمفتاح المقامة: ( اشتهيت ) اللفظة التي تدل على مكنونات نفس بشرية ليس معها عقد على نقد. ولذلك، فإن الحدث: ( قصد عيسى بن هشام الكرخ ) يوحي للقارئ بأن يتوقع سعي هذا الرجل الجائع ليتلذذ بوصف أنواع الأزاذ الموجودة، ولكن وعي الشخصية بأنها لا تملك نقدا دفعته لأن يقول: ( حتى أحلني الكرخ. فإذا أنا بسوادي.... )؛ فلم نجد في النص جملا سردية تصف الأزاذ، بل وجدنا جملة تصف الرجل السوادي لأن لا وعي الشخصية اتجه لا شعوريا لتحقيق شهوته بالحصول على الطعام عن طريق احتياله على السوادي، فأبدل نقص المال لديه بوجود سوادي يستغفله.

ويمكن لنا أن نفسر الجمل السردية المتعددة في وصف أنواع الطعام المختلفة، فوجود رجل لا بد وأن تنطلي عليه الحيلة طمأن عيسى بن هشام، فذهب يتلذذ بوصف أنواع الطعام لنستلذ متعة وصفه السردي. فوصف الشواء بقوله: " أتينا شَوَّاء يتقاطر شِواؤه عرقا. وتتسايل جُوذَاباته مرقا" ([10])، ثم قال: " زن له من تلك الحلواء. واختر له من تلك الأطباق. وانضد عليها من أوراق الرُّقَاق. ورش عليه شيئا من ماء السماق... فانحنى الشواء بساطوره. على زبدة تنوره. فجعلها كالكحل سحقا. وكالطحن دقا. " ([11])؛ فما تقاطُر الشِواء عرقا إلا لأن اللحم سمين دسم، وكان هذا العرق يتساقط على الخبز (الجوذابات) الذي يخبز في التنور فيغني عن الأدم. ثم انظر إلى الرقاق، وهو خبز رقيق متناه في الرقة إلى حد يشبه الورق، والرقاق لا بد له من الزبدة حتى يطرى فيهنأ أكله مع الشواء، وأما ماء السماق فإنه يعطيه لونا وحموضة. وقد وصفه عيسى بن هشام بقوله: ( وانضد ) أي أنه ينظمها تنظيما مما يدل على ذوقهم، ومستواهم الحضاري.

ونلاحظ في النص السابق دقة عمل الشوّاء الذي يجوّد صناعة أكله، ويتخير طرق تقديمه لزبائنه حتى يزداد إقبالهم على شوائه. وانظر إلى عيسى بن هشام الذي يتخير طعامه، فهو يتخير الشِواء الدسم، ويتخير الأطباق، ويحدد شكل تقديم الرقاق من تنظيمه ورش السماق عليه.

وبعد أن ينتهي الاثنان أكلهما يتخير عيسى بن هشام صاحب حلوى، ويقول له: " زن لأبي زيد من اللُّوزِينَج رطلين فهو أجرى في الحلوق. وأمضى في العروق. وليكن ليلي العمر. يومي النشر. رقيق القشر. كثيف الحشو. لؤلؤي الدهن. كوكبي اللون. يذوب كالصمغ قبل المضغ. " ([12]) . فالمراد من هذه الجمل هو وزن رطلين من اللوزينج، ولكن هذا الطلب السردي مشوب بالوصف، إذ يتكون هذا النص من ثلاثة أقسام سردية: القسم الأول، يطلب فيه عيسى بن هشام وزن اللوزينج. والقسم الثاني، يذكر فيه وصف اللوزينج بشكل عام، وهو سهولة أكله، وسرعة هضمه. والقسم الثالث، يصف فيه اللوزينج وصفا دقيقا، ويمثل هذا القسم تخير عيسى بن هشام لجودة الحلوى؛ فهو يريد اللوزينج ليلي الصنع وتمّ نشره بالنهار، فيكون قد نضج وسرت الحلاوة في أجزائه. ويريد قشرته الخارجية رقيقة حتى يسهل تناوله مع كثافة حشوه. وكان اللوزينج يسقى بدهن اللوز فإذا كان صافيا أشبه اللؤلؤ في لونه. وأما قوله: ( يذوب قبل المضغ ) فهو بيان لدرجة النضج التي يريدها.

ومثل هذه الجمل تصور لنا حال العمل في السوق آنذاك، إذ اشتهر لديهم وجود محلات بيع الطعام بأنواعه المختلفة. وقول عيسى بن هشام : ( السوق أقرب. وطعامه أطيب ) دلالة على جودة أصناف الطعام الموجودة في السوق، ودلالة أبعد على إتقان الباعة لصناعتهم. ويتمثل ذلك من خلال وصف عمل الشوّاء عندما انحنى بالساطور على الزبدة فسحقها، ومن خلال تقديمه الشِواء مع خبز الرقاق في الأطباق. وأما وصف اللوزينج فهو يمثل مدى إتقان صنع هذا النوع من الحلوى، الأمر الذي يدل على إبداع الصانع. وعلمنا ـ أيضا ـ بوجود سقاة يبيعون الماء المشعشع بالثلج ويبدو من وصف عيسى بن هشام عند ذهابه لإحضار سقاء أن هؤلاء الباعة متجولون، ولذلك ذهب لاحضار واحد منهم. وأما جلوس عيسى بن هشام والسوادي لتناول الطعام فيدل أن الباعة الذين يبيعون الطعام كانوا يوفرون أماكن مخصصة لزبائنهم حتى يأكلوا براحة.

إذن، فقد أبرز صراع الشخصيتين صراعا ما بين أهل القرية في صورة الرجل السوادي، وأهل المدينة الذين مثلهم الكاتب في شخصية عيسى بن هشام. وهنا ـ على خلاف العادة ـ فإن بطل المقامة هو راويها. وقد يتعجب البعض لمَ لم يظهر أبو الفتح الإسكندري في هذه المقامة ؟ وقد نؤول ذلك أن الكاتب ـ فيما أرى ـ أراد صراعا بين شخصين عاديين أحدهما من المدينة بما يحمله من دهاء وذكاء اكتسبهما من خلال حياته بها، وآخر من القرية بما يمثله من سذاجة وطيبة قلب حتى صدق كل ما قيل له. فلم يلجأ الكاتب إلى بطله لأنه رجل لا يقهر ـ وفق صورته في المقامات ـ ، ولكن الكاتب وقف إلى جانب عيسى بن هشام الرجل المديني، وجعل النصر له؛ فنستدل من ذلك على موقف الكاتب الذي ينتقد أهل القرى، ونجده إبّان ذلك ينتقد بصورة خفية مكر أهل المدينة، واحتيالهم الذي طال شخصا بسيطا.

[1] انظر: الهمذاني، المقامة البغدادية، ص 71ـ 74
[2] انظر: سليمان، خالد (1991): نظرية المفارقة، مجلة أبحاث اليرموك، م 6، ع2، جامعة اليرموك، إربد، ص 57.
[3] انظر: سليمان، خالد (1999): المفارقة والأدب، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ص 15.
[4] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص73
[5] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص74
[6] انظر: ميويك، د.سي (1987): المفارقة وصفاتها (ضمن موسوعة المصطلح النقدي، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، ط2، دار المأمون للنشر والتوزيع ، بغداد، ص 27.
[7] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص73
[8] المصدر نفسه، ص71
[9] المصدر نفسه، ص74
[10] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص72. الجوذابة: خبز تخبزه في تنور ويتساقط عليه عرق اللحم.
[11] المصدر نفسه، ص ص72 – 73. الرقاق: خبز رقيق معروف متناه في الرقة.
[12] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص73. اللوزينج: حلوى تصنع من نوع من الخبز ويسقى بدهن اللوز ويحشى بالجوز واللوز.