Tuesday, August 22, 2006

أثر خلاء مقامات الهمذاني والحريري في الحالة الشعورية

أثر خلاء مقامات الهمذاني والحريري في الحالة الشعورية .


إن خلاء المكان باعث يحث الإنسان على الإطراق في التفكير والتأمل فينتقل المرء إلى عوالم زمانية وخيالية مختلفة يشكلها وهو يسير على راحلته متجاوزا المسافة المكانية والزمانية وهو يبحث في أعماق ذاته، فيلحظ نشوء مشاعر مختلفة تتوافق تارة وتتضارب تارة أخرى.

وقد برزت بنية الصحراء في مقامات الهمذاني والحريري مشكلة خلاء المكان؛ فصورت لنا الانعكاسات النفسية لشخوص حكاياتها، ذلك أن وصف (المدينة /الصحراء) يواجهنا بعدد من الثنائيات الضدية: الازدحام والخلاء، والاستقرار والترحال، والأمان والخوف. وتبعا لذلك تتغير أمزجة شخوص الحكايات وطبائعهم وفقا لمكان وجودهم وما يتركه هذا المكان من أثر فيهم؛ فالمكان " يبدو كما لو كان خزانا حقيقيا للأفكار والمشاعر والحدوس، حيث تنشأ بينه وبين الإنسان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر." ([1])

والمدينة بأماكنها المختلفة تعج بالناس، أما الصحراء فتخلو من هذا التجمع البشري، ونظرا لخلائها فإن الحكايات التي تدور أحداثها في الصحراء تبرز لنا طابع الشخصية النفسي الذي قد يكون الوحدة، أو الخوف عند المرور بمكان لا يوحي بالأمان؛ ولهذا تظهر فرحة الشخصية عند التقائه بمرتحل في الصحراء كي يؤنس وحدته في سفره، أو قد لا يسافر إلا مع رفيق أو مع قافلة. ووجود الشخصية في المدينة يقتضي البقاء مدة زمنية طويلة إيحاء بالاستقرار، وعندما تريد شخصية المقامة الانتقال من مكان إلى آخر فلا بد لها من أن تصحر لتكون الصحراء الخلاء الذي يربط المدن فيما بينها.

والمدينة تتميز بقيودها وحدودها وأما الصحراء فلا قيود لها ولا حدود، إذ إن الإنسان في الصحراء قد يتعرض لأمور خطرة ما كانت لتحدث له في المدينة التي تتميز بسلطتها القانونية والقضائية. وهذه السلطة يتنافى وجودها في مكان متسع لا تجمع فيه، ومن هنا تردد في الحكايات تعرض الشخوص لحيوانات مفترسة أو قطاع طرق.

وخير مثال على ذلك خداع السروجي وزوجته القاضي في المقامة الرملية فاحتالا عليه وحصلا على ألفي درهم؛ ثم كان مهربهما الوحيد إلى الصحراء لقول الواشي: " ما زلت أسْتَقرِي الطرق، وأستفتح الغلق، إلى أن أدركتهما مصحرين، وقد زَمَّا مَطيَّ البين" ([2])؛ فاختيار السروجي للصحراء مكانا للهروب لعلمه المسبق بأن الطائلة القانونية لن تلحق به إلى الصحراء، ولذلك لم يستطع الواشي إعادتهما إلى القاضي مع أنه أدركهما، لأن سلطته انتهت بانتهاء حدود المدينة المكانية.

وبما أن الصحراء فقدت الأمان فإن من يقصدها يتوجس خيفة من أي بشري يظهر له، فلا يأمن على نفسه منه إلا بعد الثتبت من هويته. وهذا ما حدث مع عيسى بن هشام في المقامة الملوكية، إذ يقول: " كنت في منصرفي من اليمن وتوجهي إلى نحو الوطن، أسري ذات ليلة لا سانح بها إلا الضبع. ولا بارح إلا السبع. فلما انتضي نصل الصباح، وبرز جبين المصباح، عَنَّ لي في البراح، راكب شاكي السلاح، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من مثله إذا أقبل. لكني تجلدت فوقفت وقلت: أرضك لا أم لك فدوني شرط الحداد. وخرط القتاد، وحمية أزدية. وأنا سلم إن كنت. فمن أنت؟ فقال: سلما أصبت، ورفيقا كما أحببت. فقلت: خيرا أجبت. " ([3]) .

فعيسى بن هشام يسافر وحيدا لا مؤنس له إلا الضبع والسبع ووحوش الصحراء؛ وهذه شجاعة تشوبها الخشية عندما ظهر له الرجل، وموضع خشيته أنه رأى سلاحا يحمله الرجل، وتتمثل هذه الخشية وشعوره بالخوف عند قوله: (فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من مثله إذا أقبل) ، ويمثل لنا الكاتب هذه الحالة الإنسانية وصراعها الداخلي؛ فكلما زاد خوفه ازدادت شجاعته وهذا هو قوله: (ولكني تجلدت فوقفت وقلت: أرضك لا أم لك... )؛ فهذه الطريقة التي يتحدث بها ما دلت إلا على موقف قوة يخفي فيها شعوره بالخوف. وتصرفه هذا يحوي تناقضا صارخا؛ فأثناء الليل ووجود الوحوش حوله لم يخف، وعندما حل الصباح ورأى إنسانا شعر بالخوف، وهذا ما يدل على استخدام الصحراء بوصفها بنية تحمل المتناقضات.

ومن ذلك ما يذكره الهمذاني في المقامة الصيمرية إذ يقول: " جلت خراسان، الخراب منها والعمران، إلى كرمان وسجستان وجيلان إلى طبرستان وإلى عمان، إلى السند والهند والنوبة والقبط واليمن والحجاز ومكة والطائف أجول البراري والقفار؛ وأصطلي بالنار، وآوي مع الحمار..." ([4]) فنقلنا الصيمري من مدينة إلى أخرى بمدة زمنية سريعة بينما هي تمثل ـ واقعا ـ مدة زمنية قد تستمر إلى سنوات حتى ينهي تجواله بين هذه المدن والتنقل بينها. ناهيك أن الكاتب غيب معاناته في الارتحال بين هذه المدن إلا أنه ذكر ارتحاله عرضا عندما قال: ( أجول البراري والقفار) وهنا نلاحظ زمنية المدينة نسبة إلى زمنية الصحراء والخلاء؛ فلو قسنا زمن النص بين المدينة والصحراء فحديثه عن المدن أطول، ذلك أن الكاتب عند مروره بالمدن لا بد له من الوقوف فيها والتعامل مع أهلها، أما الخلاء فيجعله ممرا يصل به بين هذه المدن.

وما نلمحه عند أبطال المقامات الهمذانية والحريرية أنهم لا يطيلون المكوث في المدن حتى لا يفتضح أمرهم؛ فأبو زيد السروجي يمضي وقتا عند قبيلة عربية وبعد نيل مراده يحدث الحارث بن همام بقوله: " إنه لم يبق لي بهذه الأرض مرتع، ولا في أهلها مطمع. فإن كنت الرفيق، فالطريق الطريق. فسرنا منها متجردين" ([5]) فعندما عنّ للسروجي الرحيل طلب من صاحبه مرافقته فلبى دونما تردد. ونلاحظ في النص تعاقب حرف الفاء وتكراره؛ فقوله: ( فإن كنت الرفيق، فالطريق الطريق) دلالة على اقتران الرفيق والسفر، وحاجة السروجي الملحة لمغادرة المكان. إلا أن النص أخفى موافقة الحارث بن همام واختصر زمن السرد والزمن الحقيقي بأداء الفعل مباشرة، فموافقة الحارث لم تظهر قولا في النص وإنما فعلا لقوله: ( فسرنا ) ، ليكون إيجاد الرفيق أمر لازب لحدوث الفعل.

وما رحيل الحارث بن همام مع السروجي إلا ثقة به واطمئنانا إليه، وكذا كان فعله عندما ارتحل إلى دمياط، فهو يقول: " فرافقت صحبا قد شقوا عصا الشقاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق، حتى لاحوا كأسنان المشط في الاستواء، وكالنفس الواحدة في التئام الأهواء، وكنا مع ذلك نسير النجاء، ولا نرحل إلا كل هوجاء، وإذا نزلنا منزلا، أو وردنا منهلا، اختلسنا اللبث، ولم نطل المكث. فعنّ لنا إعمال الركاب، في ليلة فتية الشباب، غُدَافِيَّةِ الإهاب. فأسرينا إلى أن نضا الليل شبابه، وسلت الصبح خِضَابَهُ، فحين مللنا السرى وملنا إلى الكرى، صادفنا أرضا مخضلة الربا، معتلة الصَّبا. فتخيرناها مناخا للعيس، ومحطا للتعريس. " ([6]) .

فالأشخاص الذين سافر معهم الحارث بن همام هم خير الرفقة في السفر، فهم على وفاق، ولا نزاع بينهم، وإن المرء ليأمنهم على نفسه في مرتحله. ومع ذلك كله؛ فقد تجاوزوا الصحراء مسرعين، ولم يطيلوا المكث للراحة، بل إنهم ساروا ليلهتم التي ما كانوا ليسيروها لولا الرفقة؛ فهي ليلة ظلماء لا قمر فيها، وبالرغم من شدة ظلامها إلا أنهم ارتحلوا فيها إلى أن كدّهم التعب فاحتاجوا النوم، لذا تخيروا منطقة ليناموا فيها فكانت منطقة ذات ربوة مبتلة وأرضها خصبة وذات هواء عليل، فارتاحوا فيها. إلا أن القارئ ليتساءل لماذا قال الحارث بن همام: (اختلسنا اللبث، ولم نطل المكث) مع أن رفقته رفقة صالحة ويطلبها الإنسان؟

لا شك أن الخلاء يلقي الرهبة في نفس الشخص؛ فيحتاج رفيقا مؤنسا أو مشجعا على اجتياز الخلاء. وهذا ما يفسر تخير المكان عند المبيت، الأمر الذي يؤنس الإنسان ويريحه قبل نومه، ليكون المكان ذا أثر يساعد على اطمئنان النفس وهدوئها.

وقد يؤثر المكان سلبا على الشخصية؛ فبعد حصول السروجي على مال الجماعة ـ وهم في منطقة مقفرة من الصحراء ـ لم يجد بدا من الهرب عندما اقتربوا من قرية لقول الحارث بن همام: " فلما رأى أبو زيد امتلاء كيسه، وانجلاء بوسه، قال لي: إن بدني قد اتسخ، ودرني قد رسخ، أفتأذن لي في قصد قرية لأستحم، وأقضي هذا المهم؟ فقلت: إذا شئت فالسرعة السرعة، والرجعة الرجعة. فقال: ستجد مطلعي عليك، أسرع من ارتداد طرفك إليك. ثم استنّ استنان الجواد في المضمار، وقال لابنه بدار بدار. ولم نخل أنه غرّ وطلب المفر. " ([7])

وفي الرحلة يصعب على الشخص الافتراق عن رفيقه، فذلك عيسى بن هشام يقول في المقامة الشيرازية: " لما قفلت من اليمن. وهممت بالوطن. ضم إلي رفيق رحلة، فترافقنا ثلاثة أيام حتى جذبني نجد. والتقمه وهد. فصعدت وصوّب. وشرّقت وغرب. وندمت على مفارقته بعد أن ملكني الجبل وحزنه. وأخذه الغور وبطنه. فوالله لقد تركني فراقه. وأنا أشتاقه. ونما درني بَعده. أقاسي بُعده. " ([8])، فقد سار معه هذا الرفيق مرتحلا بارتحاله، وينزل بنزوله مدة ثلاثة أيام، وهي مدة كافية ليعتاد عليه، لا سيما وأنهما يسيران وحيدين لا ثالث لهما. ولم يزالا سائرين معا حتى وصلا إلى مكان الافتراق؛ فأخذ عيسى بن هشام طريق نجد وأخذ صديقه سبيل الغور.

ويصور الكاتب هذين المكانين بقوله: ( جذبني نجد ) دلالة على التكلف في الصعود، وأنه احتاج إلى جذب. وقوله: ( التقمه وهد ) دلالة على سهولة النزول فيه، وكأنه ملتقط للهابط. وزاد المعنى إيضاحا بقوله: ( فصعدت وصوب ) أي أنه ارتقى النجد وانحدر صاحبه إلى السهل. فمهمة صاحبنا عيسى بن هشام هي الأصعب لأنه يرتقي ويصعد، وفي هذا الصعود جهد وعناء يزيدهما صعوبة الوحدة مما دعاه إلى الندم على مفارقة صديقه. ولكن الزمن الذي ندم فيه هو مقصدنا؛ فهو ندم بعد أن ملكه الجبل وطرقه الغليظة، فكان قد تغلغل في هذه الطرق تغلغلا لا يسهّل عليه الرجوع طلبا للرفيق، ولولا هذه الصعوبة لرجع إليه استئناسا به، واستعادة لنعيم صحبته. وما منعه أن كلا منهما أبعد في طريقه، وصار الطالب بحيث لا يدرِك والمطلوب بحيث لا يدَرك. ([9])

وكما تصعب مفارقة الرفيق في الرحلة يصعب على المرتحل تقبل أي مرافق أثناء ارتحاله، وهذا ما يخبرنا به عيسى بن هشام إذ يقول: " كنت في بعض بلاد فزارة مرتحلا نجيبة.وقائدا جَنيبة. يسبحان بي سبحا. وأنا أهم بالوطن فلا الليل يثنيني بوعيده. ولا البعد يلويني ببيده. فظللت أخبط ورق النهار بعصا التَّسْيَارِ. وأخوض بطن الليل. بحوافر الخيل. فبينا أنا في ليلة يضل فيها الغطاط. ولا يبصر فيها الوطواط. أسيح سيحا ولا سانح إلا السبع. ولا بارح إلا الضبع. إذ عنّ لي راكب تام الآلات يؤُّمُّ الأثلات. يطوي إليَّ منشور الفلوات. فأخذني منه ما يأخذ الأعزل. من شاكي السلاح لكني تجلدت فقلت: أرضك لا أم لك فدونك شرط الحداد. وخرط القتاد. وخصم ضخم. وحمية أزدية. وأنا سلم إن شئت. وحرب إن أردت. فقل لي من أنت. فقال: سلما أصبت."([10])
فصاحبنا يقصد وطنه متجاوزا صحراء مترامية الأطراف مع بعد المسافة التي يقصدها، فبينما هو في ليلة حالكة الظلمة لا مؤنس له فيها إلا الحيوانات المفترسة، ظهر له رجل متسلح يسير نحوه بسرعة، فاجتمع على صاحبنا اتساع الصحراء بحيواناتها المفترسة وليلها الحالك ورجل مسلح يقصده، وكل أمر منها يرهب الإنسان خوفا، ويحمل منه هما. لكنه اتخذ الموقف النموذج الذي يفخر الرجل به والذي يطمح إليه الإنسان، ذلك أنه تجلد ولم يظهر خوفه؛ فبدأه الكلام: ( أرضك لا أم لك ... ) ليظن فيه قوة فيخشاه، وحمّل لفظه وعيدا بقتال رجل ذي قبيلة كبيرة، فإن حدث له سوء سيكثر طالبوه. ومن ثم يخيره بقوله: ( وأنا سلم إن شئت، وحرب إن أردت) فقدّم السلم على الحرب لأن هذا مبتغاه، وما حديثه عن السلاح والقوة والحرب إلا ترهيبا لذلك الرجل حتى لا يجد عنده ضعفا فيستغله، وقد نجحت هذه الطريقة في ترهيب الرجل عندما أجاب: ( سلما أصبت).


ـ مشكلات المكان وأثرها في نفس البطل:

وأصدق شاهد يعبر عن تصرفات الشخوص في البادية هم أهلها الذين يعيشون فيها، ذلك أن الحارث بن همام يحدثنا عن مجاورته لأهل الوبر حيث اتخذ قطيعا من الإبل والأغنام وانضم إلى قبيلة عربية فأكرموا مقامه عندهم إلى أن ضاعت له ناقة كثيرة اللبن، قيقول: " فلم أطب نفسا بإلغاء طلبها، وإلقاء حبلها على غاربها. فتدثرت فرسا محضارا، واعتقلت لَدْنا خَطَّارا، وسريت ليلتي جمعاء، أجوب البيداء، وأقتري كل شجراء ومرداء. إلى أن نشر الصبح راياته، وَحَيعَل الداعي إلى صلاته. فنزلت عن متن الركوبة، لأداء المكتوبة. ثم حلت في صهوتها، وفررت عن شحوتها، وسرت لا أرى أثرا إلا قفوته، ولا نشزا إلا علوته، ولا واديا إلا جزعته، ولا راكبا إلا استطلعته. وجِدِّي مع ذلك يذهب هدرا ولا يجد ورده صدرا، إلى أن حانت صَكَّةُ عُمَي، ولفح هَجِير يذهل غيلان عن مَيَّ. وكان يوما أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلاة. فأيقنت أني إن لم أستكن من الوقدة، وأستجم بالرقدة، أدنفني اللُّغُوبُ، وعلقت بي شعوب. فعجت إلى سرحة كثيفة الأغصان، وريقة الأفنان، لأغور تحتها إلى المغيربان، فوالله ما استروح نفسي، ولا استراح فرسي، حتى نظرت إلى سانح،في هيئة سائح، وهو ينتجع نعجتي، ويشتد إلى بقعتي. فكرهت انعياجه إلى معاجي، فاستعذت بالله من شر كل مفاجي. " ([11])

وسعي الحارث بن همام بحثا عن الناقة في الخلاء الواسع كشف عن صور مختلفة من الخلاء، ومنها: المنطقة الشجراء التي يكثر فيها الشجر والنبات. والمنطقة المرداء التي لا نبات فيها. والمنطقة النشز التي تشير إلى المكان المرتفع والذي يجهد الإنسان في صعوده. والمنطقة الوادي التي ينزلها الراكب عرضا حتى يسهل النزول، فلا يقع إن نزل مستقيما. وهو مع كل ذلك لا يجد أثرا لضالته، وأثناء وجوده في الصحراء يصف لنا الحارث بن همام حال النهار بها، وخصوصا وقت الظهيرة؛ فلم يثنه عن البحث ليل ولا نهار إلا أداء الفريضة، واشتداد الحر لصعوبة تحمل حرارة الصحراء.

ويعود بنا الحارث بن همام إلى وصف منطقة جديدة في الصحراء؛ فثمة شجرة متراكمة الأغصان والأوراق يصلح النوم تحتها ، ولكن صاحبنا لم يجد في النوم راحة لأنه رأى رجلا يقصد مكانه فكره ذلك، بعد كل ما اعتد به من سلاح، وكل ما واجهه من صعوبات في استقصاء الناقة منفردا، وموضع استدلالنا بذلك قوله: ( فكرهت انعياجه )، وقوله: ( فاستعذت بالله ). وهي حالة نفسية غريبة نجدها من شخص يرتحل بالصحراء ليلا، فلا يخاف الوحش، ولكنه يخاف إنسانا مثله. ووصفنا الحالة النفسية بالغريبة لأنه خاف هذا الرجل وقت النهار، ولكننا نستدل من هذا أن الخلاء يلقي رهبة في نفوس المرتحلين ويسلبهم الشعور بالأمان، حتى تصبح ملاقاة الوحش أهون عليهم من ملاقاة الإنسان.
ولكن خوف الحارث بن همام تبدد عندما بدت له هيئة السروجي، فنام ولم يستيقظ إلا والليل قد حلّ، وكان السروجي قد رحل، آخذا معه فرس الحارث بن همام، فقضى ليلته راجلا إلى أن جاء الصباح، فمرّ قريبا منه رجل يركب الناقة المنشودة. فقال له: " أنا صاحبها ومضلها، ولي رسلها ونسلها... فأخذ يلدغ ويَصئِي، ويتّقح ولا يستحيي. وبينا هو ينزو ويلين، ويستأسد ويستكين، إذ غشينا أبو زيد لابسا جلد النمر، وهاجما هجوم السيل المنهمر. " ([12]) فأخبره الحارث بن همام خبر الرجل " فنظر إليه نظر ليث العريسة، إلى الفريسة، ثم أشرع قبله الرمح، وأقسم له بمن أنار الصبح، لئن لم ينج منجى الذباب، ويرض من الغنيمة بالإياب، ليوردنّ سنانه وريده، وليفجعن به وليده ووريده. فنبذ زمام الناقة وحاص، وأفلت له حُصَاص. فقال أبو زيد: تسلمها وتسنمها، فإنها إحدى الحسنيين، وويل أهون من ويلين. قال الحارث بن همام: فحرت بين لوم أبي زيد وشكره. " ([13])

فالمرتحل في الصحراء يصالح ذاته ليواجه الخلاء وخباياه؛ فتطفو أغوار مشاعره معبرة عن رد فعل منعكس أمام أي حدث يجابهه، فتظهر تصرفات للإنسان لم يكن يدركها من قبل. وهذا تعليل الصراع وثورة المشاعر بين الشخوص في النص. أما محور الصراع فهو الحارث بن همام الذي تصارع مع الرجل الذي سرق ناقته، وتصارع مع السروجي الذي سرق فرسه، فمشاعر الكره والبغض تحولت من كره الرجل الذي يركب الناقة، وحب استرداد الضالة إلى مشاعر الخوف عند رؤية السروجي وهو يحاول إنقاذه، لقوله: " فخفت والله أن يكون يومه كأمسه، وبدره مثل شمسه، فألحق بالقَارِظَيْنِ، وأصير خبرا بعد عين."([14]) ، لكن مشاعر الخوف هذه سرعان ما تحولت إلى ثقة واطمئنان بعدما قال له السروجي: " وافيتك لأخبر كُنهَ حالك، وأكون يمينا لشمالك. فسكن عند ذلك جَاشِي، وانجاب استيحاشي"([15]) .

وما يثير اهتماننا في هذا النص كلمة الحارث بن همام: ( وانجاب استيحاشي )؛ فهو في صحراء مقفرة يواجه رجلا اتخذ من الناقة الضالة مطية له، فهو وحيد يقابل رجلا وحيدا ضمن خلاء الصحراء، وهذا هو موضع الاستيحاش الذي ذكره الحارث بن همام، وشعر بالألفة عند مساندة السروجي له، فانتقل ما يكنّه من مشاعر خوف وقلق إلى الرجل الذي أصبح وحيدا وهو يقابل اثنين يريدان به شرا؛ فترك زمام الناقة وفرّ هاربا منهما.

ووصف المكان يختلف وفقا لحالة الشخص النفسية والشعورية ؛ وتبعا لذلك فقد تنوعت صور المكان في مقامات الهمذاني والحريري. أما أنواع الأماكن([16]) التي شكلت الخلاء في الأنماط السردية الحكائية، فنجمل أبرزها فيما يلي:

1ـ المكان الأنيس:

أن يكون المكان الخلاء أنيسا هو نوع من المفارقة، إذ لا يستساغ كون المكان الخلاء بأبعاده الموحشة أنيسا، ولكن الهمذاني والحريري في كثير من المقامات صورا أبطال حكاياتهم يتمتعون بالأنس إبّان وجودهم في الخلاء؛ فذلك الحارث بن همام يقول: " ترامت بي مرامي النوى، ومساري الهوى، إلى أن صرت ابن كل تربة، وأخا كل غربة. إلا أني لم أكن أقطع واديا، ولا أشهد ناديا، إلا لاقتباس الأدب المسلي عن الأشجان، المُغْلِي قيمة الإنسان، حتى عرفت لي هذه الشنشنة" ([17])، فقد ألِف الحارث بن همام الخلاء وأصبح الترحال متعة، ولكن هذه المتعة هادفة وغرضها تحصيل العلم، ودون هذه الغاية كان سيُعدّ الحارث بن همام مجنونا لحب الخلاء دون مبرر.

والمكان الموحش قد يصبح مقبولا ومحببا إذا كان للإنسان غاية، وخير مثال على ذلك قول الحارث بن همام في المقامة الرملية: صادفت ركابا تعد للسرى، " ورحالا تشد إلى أم القرى، فعصفت بي ريح الغرام، واهتاج لي شوق إلى البيت الحرام، ونبذت عُلَقِي وعلاقتي. " ([18])، فالارتحال طلبا لعبادة الله تعالى خير غاية لترك العمل والأمور الشاغلة. ونلحظ أن الحارث بن همام قد هاجه الشوق إلى ذلك عند رؤيته جماعة يستعدون للرحيل إلى البيت الحرام؛ فوجد المؤنس في السفر، ووجد غاية جليلة من سفره، فازداد الارتحال في المكان ألفة بوجود الناس فيه وبتخيرهم، إذ يقول: " ثم انتظمت مع رفقة كنجوم الليل، لهم في السير جرية السيل، وإلى الخير جري الخيل " ([19]) .

وذلك عيسى بن هشام في المقامة الغيلانية يسمع حكاية من رجل كثير الحفظ والرواية هو عصمة بن بدر الفزاري يقول فيها: " بينما أنا أسير في بلاد تميم مرتحلا نجيبة وقائدا جنيبة. عنّ لي راكب على أوراق جعد اللغام فحاذاني حتى إذا صك الشبح بالشبح رفع صوته بـ " السلام عليك " . فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. من الراكب الجهير الكلام، المحيي بتحية الإسلام؟ فقال: أنا غيلان بن عقبة. فقلت: مرحبا بالكريم حسبه. الشهير نسبه. السائر منطقه. فقال: رحب واديك. وعز ناديك. فمن أنت؟ قلت: عصمة بن بدر الفزاري. قال: حياك الله نعم الصديق. والصاحب والرفيق. وسرنا فلما هجرنا قال: ألا نغور يا عصمة فقد صهرتنا الشمس؟ فقلت: أنت وذاك. فملنا إلى شجرات آلاء كأنهن عذارى متبرجات قد نشرن غدائرهن. لأثلات تناوحهن. فحططنا رحلنا ونلنا من الطعام، وكان ذو الرمة زهيد الأكل وصلينا بعد، وآل كل واحد منا إلى ظل أثلة يريد القائلة. " ([20])

فيبدو جليا من النص أن هذا الشخص يسير في الخلاء وهو يشعر بالأمان، وذلك لعدة أسباب؛ فهو يسير في بلاد تميم، وما ذكره الاسم إلا دلالة على أمن هذه المنطقة المعروفة، فتخلو من قطاع الطرق ومن الأمور التي يخشاها المرتحل وحيدا، ثم هو يتخذ رفيقا له في سفره؛ فأصبح المكان أكثر أمنا. ونلاحظ أن لقاء الاثنان في الصحراء تمّ عن طريق تناقل رسالة مرمزة بينهما، وذلك عند قوله: (رفع صوته بالسلام عليكم )، فكلمة ( رفع ) رسالة تدل على رغبة الرجل في الرفقة، وإلا لأخفى نفسه بعيدا، أو لم يكن ليسلّم. وأما جملة ( السلام عليكم ) استكمال للرسالة دلالة القدوم بسلام، ورغبة في إكمال الدرب دون متاعب أو طمع في المرتحل. وبما أن الرسالة الدلالية بين مرسل ومستقبل، وقد توضح قصد المرسل، فكان لا بدّ من الردّ سلبا أو إيجابا، ولكن الإيجاب قد تمّ اختياره بقوله: (حياك الله نعم الصديق. والصاحب والرفيق ).

وما نلمحه في النص أنه أوجد طبيعة خاصة للمكان الأنيس تتمثل فيما يلي: أمن المنطقة، واتخاذ الرفقة في الرحلة، وحسن الطقس، وطبيعة المكان. فيبدأ الهمذاني حكايته بأدلة تشير إلى أمن المكان، وأن المنطقة محمية بوجود تميم. ويتخذ رفيقا يصحر معه في وقت ليس بذي حرارة عالية. ولذلك عندما اشتدت الحرارة عليهم سُلب المكان أحد شروط أنسه؛ فرفض المرتحلان الاستمرار، لقوله: (فلما هجرنا. قال: ألا نغور... فقد صهرتنا الشمس ؟ ) مما دفع المرتحلان إلى البحث عن مكان آخر تكتمل فيه شروط أنس المكان؛ فقد نزلا في منطقة حسنة المنظر ظليلة الأشجار؛ فهو مكان آمن ذو طبيعة ترتاح لها النفس، ينزل فيه المرتحل مع رفيقه ليستظلا بظل الأشجار بعد كدّهما من لهب الصحراء. ويزداد حسن المستقر في هذا المكان بعد تناول الطعام، وأداء الصلاة التي لها الأثر النفسي الإيجابي عند المرتحلين؛ فهما انتقلا من مكان أنيس يحبه العرب إلى مكان أكثر ألفة وسكينة فتطمئن له النفس، وهذا الاطمئنان انعكس فعلا عند ذهابهما إلى النوم الذي يمثل الحالة الأكثر هدوءا وأمنا للإنسان إذ إن الإنسان الذي به خوف أو قلق لا يتمكن من النوم.


2ـ المكان المخيف:

لا يشترط بالمكان أن يكون مخيفا بطبيعته، بل قد يكون هناك مسببات للخوف، فالخوف ـ مثلا ـ ملازم للإنسان عند إحساسه بالخطر. ومثال ذلك ما ورد في المقامة الإبليسية عندما قال عيسى بن هشام: " أضللت إبلا لي فخرجت في طلبها فحللت بواد خضر. فإذا أنهار مُصرَّدة وأشجار باسقة وأثمار يانعة وأزهار وأنماط مبسوطة."([21])؛ فوصف المكان بهذه الصورة التفصيلية الجمالية دال على راحة نفسية عيسى بن هشام لأن الوقت أتيح له لينظر في أنحاء المكان ودقائقه؛ فجاء وصفه تفصيليا لطبيعة هذا المكان التي يرتاح الإنسان إليها ويطمئن. ولكن عيسى بن هشام يتجه بنا اتجاها مغايرا عندما يقول: " وإذا شيخ جالس. فراعني منه ما يروع الوحيد من مثله." ([22])؛ فالطبيعة الوادعة لهذا المكان تلاشت عند رؤية عيسى بن هشام لهذا الشيخ، وانصرف تركيز عيسى بن هشام عن وصف المكان لأن مثيرا قويا قد أثاره، فتصارعت الأسئلة في عقل عيسى بن هشام عن هوية هذا الرجل، وشأن عمله في هذا المكان. فليس الشيخ من أثار خوف عيسى بن هشام لأن النص لا يحوي قسما سرديا يصف تسلح الشيخ، لكن عنصر المفاجأة هو الذي أثار خوفه بما يسمى مفارقة كسر التوقع ذلك أنه لم يتوقع أن يرى إنسا في هذا الخلاء. والشيخ يلمح سريعا اضطراب عيسى بن هشام النفسي وخوفه؛ فقال له دون تردد: " لا بأس عليك. فسلمتُ عليه وأمرني بالجلوس فامتثلت. وسألني عن حالي فأخبرت. فقال لي: أصبت دالتك. ووجدت ضالتك." ([23])

وما نلحظه في هذا النص النقلات السردية السريعة التي يستخدمها الهمذاني في مقامته إذ لا يسير سرد الحكاية بنمط ثابت تقليدي؛ فعيسى بن هشام أضل إبلا فبحث حتى وصل إلى واد أخضر، وبطريقة غريبة يجد شيخا يجلس منتظرا وسط الوادي، وهنا لابد وأن تفتح آفاق التساؤلات أمام عيسى بن هشام: من هذا الشيخ ؟ وما الذي يفعله في وسط هذا الوادي الخالي؟ . ولكن حديثه مع الشيخ ينقل النص نقلة سردية مغايرة للتسلسل المنطقي إذ إن هذا الشيخ يعرف مكان الإبل. وهنا يطرح المتلقي سؤالا عن ماهية العلاقة بين خروج عيسى بن هشام باحثا عن الإبل ووجود الشيخ وسط الوادي ؟ وهنا لا بدّ من تتبع الأحداث حتى نصل إلى هذه العلاقة.

فتنصّ الأحداث على أن الشيخ طلب من عيسى بن هشام أن يروي له شعرا، فتبادلا رواية الشعر إلى أن قال له عيسى بن هشام: " قبَّحَكَ الله من شيخ. لا أدري أبانتِحالِكَ شعر جرير أنت أسخف، أم بطربك من شعر أبي نواس وهو فويسق عَيَّار" ([24])؛ فيقول له الشيخ: دعك من هذا، ويبعثه إلى رجل ليدله على مكان إبله. ومن ثم يفسر الشيخ حقيقة أمره إذ يقول: " وكنت أكتمك حديثي. وأعيش معك في رخاء لكنك أبيْت فخذ الآن، فما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا، وأنا أمليت على جرير هذه القصيدة، وأنا الشيخ أبو مرّة " ([25])

والمقامة في شقها هذا تبدو غرائبية لقول الشيخ: أنا أبو مرّة ـ وهو اسم من أسماء الشيطان ـ ، وهنا يبرز دور المكان في صنع غرائبية الموقف؛ فوجود الشيخ في هذا الخلاء وحيدا، كان له دوره في غرائبية الأحداث، وجعلنا نقبل بفكرة مفادها: إن الشيخ هو الشيطان. ولكن تبقى غرائبية هذا الموقف قائمة إذ كيف أصبح عيسى بن هشام صديقا للشيطان، وكيف يستوي لدينا موقف الشيطان ـ بطبيعته الجهنمية ـ وهو يساعد عيسى بن هشام في إيجاد إبله؛ فهذه الأحداث في هذا القسم لا نقبلها إلا على مستوى التشظي، والعبث في عقل المتلقي.

وبعد قبول هذه الأحداث؛ فإن الهمذاني يلجأ إلى اقناعنا بها عن طريق تأكيد صحتها من خلال قوله: " ومضيت لوجهي فلقيت رجلا في يده مِذَبَّة. فقلت: هذا والله صاحبي. وقلت له ما سمعت. فناولني مسرجة وأومأ إلى غار في الجبل مظلم فقال: دونك الغار. ومعك النار. قال: فدخلته فإذا أنا بإبلي قد أخذت سمتها. فلويت وجوهها ورددتها. " ([26]) وهنا أيضا يدعنا الهمذاني أمام غموض آخر هو شخصية الرجل، وهل هو شيطان تابع لإبليس ؟ وإن كان كذلك فلم قام بمساعدة عيسى بن هشام، أهو ولاء لقائده ؟

ولا ينهي الهمذاني مقامته الإبليسية دون أن يوظف حيرة المتلقي في تشكيل المقامة، ذلك أنه يولّد حبكة حكائية جديدة بعد أن كانت المقامة تتجه إلى النهاية، وهذه الحبكة تتشكل عند ظهور الإسكندري في ذلك الغار المظلم. وهنا يتخذ المكان دورا رئيسا في تشكيل الحبكة؛ فوجود الإسكندري في الغار الذي يوجد فيه عيسى بن هشام تحديدا هو الذي صنع تشويقا في الحبكة الجديدة ليكون الجواب على لسان الإسكندري عندما أجاب عيسى بن هشام، " فأومأ إلى عمامته وقال: هذه ثمرة بره. فقلت: يا أبا الفتح شحذت على إبليس إنك لشحاذ " ([27]).

ويستغل الهمذاني ظهور الإسكندري في الغار ليصنع مفارقة مضمونية، ذلك أن قوله: ( هذه ثمرة بره ) تدل على ملاقاته إبليس وأن الأحداث التي مر بها عيسى بن هشام كان الإسكندري قد سبقه إليها. وموضع المفارقة أن إبليس بطبيعته الشيطانية التي لا يتأتى منها إلا الشر استطاع الإسكندري خداعه، بل إنه أخذ منه أثرا ودليلا هو العمامة؛ فصانع المفارقة هو الإسكندري وضحيتها إبليس( الشيخ )، وشاهد المفارقة هو عيسى بن هشام. ذلك أننا وقعنا ضحية الهمذاني في هذه المقامة، إذ لم يعد الموضوع موضوع ضياع إبل عيسى بن هشام بل إن وجود عيسى بن هشام في هذه المقامة ـ فيما أرى ـ هو أسلوب فني استخدمه الهمذاني ليكون شاهد إثبات على قدرة الإسكندري وكديته التي طالت إبليس.

واعتبار المكان مخيفا منوط بالحالة الشعورية للشخصية وتقلباتها؛ فشعور شخصية المقامة هو الذي يحدد النظرة إلى طبيعة المكان فيها، ذلك أن الكاتب ينقل لنا وصف المكان من خلال عيني الشخصية التي تتحرك متنقلة فيه؛ ومن مثال قول الحارث بن همام في المقامة البكرية: " هفا بي البين المُطَوِّحُ، والسير المبرح، إلى أرض يضل بها الخِرِّيتُ، وتفرق فيها المَصَالِيتُ " ([28]) فوصفُ هذا المكان هو أثر للحالة النفسية التي يمر بها الحارث بن همام، وسبب هذا الوصف الضياع، ذلك أن الحارث بن همام ضلّ طريقه وهو وحيد؛ فألقى المكان انعكاسات نفسية سلبية على الشخصية الوحيدة التي تتحرك في هذا المكان، لذلك قال عن هذا المكان: (إن الدليل الحاذق يضيع في مثل هذا المكان).

وما كلام الحارث بن همام إلا تسرية لنفسه، وتخفيف لوطأة المكان عليه. لذلك فإنه يقول: " فوجدت ما يجد الحائر الوحيد، ورأيت ما كنت منه أحيد. إلا أني شجعت قلبي المَزؤُودَ، ونسأت نضوي المجهود، وسرت سير الضارب بقدحين، المستسلم للحين. ولم أزل بين وخذ وذَمِيل، وإجازة ميل بعد ميل، إلى أن كادت الشمس تجب، والضياء يحتجب. فارتعت لإظلال الظلام، واقتحام جيش حام. ولم أدر أأكفت الذيل وأرتبط، أم أعتمد الليل وأختبط ؟ " ([29])؛ فقد استسلم الحارث بن همام للضياع والهلاك الذي سببه الوجود في خلاء مكتنف المجاهل. ويزداد الحارث بن همام خوفا عند حلول الظلام، وكأن الظلام في النص أصبح رمزا للمجهول والهلاك؛ فتجمع على الحارث بن همام الضياع في الأرض الخلاء، وظلمة الليل، لذلك احتار الحارث ما بين المبيت والارتحال في غياهب الظلام. وفي ظل هذه العتمة السردية يتجلى الفرج بنص السارد: " وبينا أنا أقلب العزم" ([30]) فتوحي هذه الجملة السردية بإشراقة نصية يبثها المؤلف إنقاذا لرواي مقامته، فيرى الحارث طيف جمل مستتر بجبل، وصاحبه ينام طلبا للراحة، فلم يكن للحارث بدّ من طلب المساعدة، ولذلك يقول: " فجلست عند راسه، حتى هبّ من نعاسه. فلما ازدهر سراجاه، وأحس بمن فاجاه، نفر كما ينفر المريب، وقال: أخوك أم الذيب ؟ فقلت: بل خابط ليل ضلّ المسلك، فأضئ أقدح لك. فقال: ليسر عنك همّك، فربّ أخ لك لم تلده أمك. فانسرى عند ذلك إشفافي، وسرى الوسن إلى آماقي. " ([31]) .

وهنا يبدأ المكان يتشكل وفق منظور الشخصيتين؛ فأصبح المكان أنيسا للحارث بن همام لأنه وجد الرفقة والأمن وذلك يفسر قوله: ( وسرى الوسن إلى آماقي ) لأنه لم يكن قادرا على النوم بسبب خوفه وقلقه، أما عند سكينته وراحته فقد طلبه النوم فلبّى. وأما الشخص النائم فإن المكان وفقا لرؤيته غدا مخيفا لأنه لم يكن نائما ومستغرقا في النوم بل كان متوجسا من خطر قد يصيب الوحيد في الصحراء، وزاد خوفه عند رؤية رجل مجهول الهوية والنية يقف عند رأسه، فنفر( كما ينفر المريب )، وأطلق رسالة نصها: ( أخوك أم الذيب؟) مقدما لفظة (أخوك ). وعندما علم بأمر الحارث اطمأنّ الاثنان، استدلالا بقوله: ( ربّ أخ لك لم تلده أمك ) لتكون هذه الجملة إجابة عن كثير من الأسئلة التي تجول في خاطريهما.


3ـ المكان المعادي:

ومن أمثلة هذا المكان الحكاية التي يرويها عيسى بن هشام في المقامة الأسدية عند سفره إلى حمص في صحبة هم كنجوم الليل، إذ يقول عيسى بن هشام عندما كدّهم التعب: "تاح لنا واد في سفح جبل ذي ألاء وَأثْل. كالعذارى يسرحن الضفائر. وينشرن الغدائر. ومالت الهاجرة بنا إليها ونزلنا نغوّر ونغُور، وربطنا الأفراس بالأمْرَاسِ وملنا مع النعاس. فما راعنا إلا صهيل الخيل ... ثم اضطربت الخيل فأرسلت الأبوال وقطعت الحبال. وأخذت نحو الجبال. وطار كل واحد منا إلى سلاحه فإذا السبع في فروة الموت. قد طلع من غابه. منتفخا في إهابه. كاشرا عن أنيابه. "([32]) فأحداث هذا القسم من الحكاية تبدو مسالمة إذ بدأت بمسير المرتحلين في الصحراء بعد تخير الرفقاء، وعند اشتداد الحرارة عليهم وتخيرهم المكان نزلوا للراحة. وهنا يبدأ المكان بتغيير طبيعته مما أدى إلى تغيير مسار الأحداث؛ فيهجم عليهم أسد وهم في غفلة لأن طبيعة المكان لم تكن توحي بوجود خطر مماثل. وهنا يفرض المكان بطبيعته المعادية التعاون لمجابهة هذا الخطر؛ فتصدى الرفقاء للأسد، فقتل واحد منهم قبل أن يقتلوه، ثم لحقوا بالخيول وأمسكوا ما لم يهرب منها، ثم عادوا وجهزوا رفيقهم للدفن. ([33])

ولم يقتصر هذا المكان على هجوم الأسد عليهم، بل إنهم تعرضوا لخداع قاطع طريق لقول عيسى بن هشام: " وعدنا إلى الفلاة. وهبطنا أرضها وسرنا حتى إذا ضمرت المزاد. ونفد الزاد أو كاد يدركه النفاد. ولم نملك الذهاب ولا الرجوع. وخفنا القاتلين: الظمأ والجوع. عنّ لنا فارس فصمدنا صمده ... وعمدني من بين الجماعة. فقبّل ركابي. وتحرّم بجنابي. ونظرت فإذا هو وجه يبرق برق العارض المتهلل. وقوام متى ما ترق العين فيه تسهل، وعارض قد اخضر. وشارب قد طرّ. وساعد ملآن. وقضيب ريان. ونجار تركي. وزي ملكي" ([34]) .

فتظهر من جديد وطأة المكان على أفراد الحكاية إذ أضناهم التعب بعد قتال الأسد، وهم في حالة شعورية يمكن وصفها بالكآبة والحزن بعد رؤية رفيقهم يقتل على مرأى من أعينهم، بل وتزداد الأمور سوءا بهروب عدد من الخيول ونفاد الماء والطعام منهم، وهم في منطقة بعيدة عن مقصد ارتحالهم. فتصل بنا الأحداث في النص إلى مرحلة نقول فيها: إنهم هالكون لا محالة. ولكن الهمذاني يوفر لهم مخرجا قريبا عندما يصنع حبكة جديدة في النص بظهور رجل يقصدهم. ونلمح في النص دقة وصف عيسى بن هشام لهذا الرجل؛ فهو يركب فرسا أصيلا، وقد نبت شاربه حديثا، وتظهر عليه ملامح القوة، وتوحي تعابير وجهه وملابسه أنه رجل تركي ثري.

إذن، فإن مظهر هذا الرجل وصفاته التي ذكرت في النص دفعت القوم لأن يستأمنوه في مرتحلهم، ذلك أنه قصد عيسى بن هشام وقال له: " أنا اليوم عبدك. ومالي مالك " ([35])؛ فهنأ القوم عيسى بن هشام بعدما فتنتهم ألحاظه وألفاظه. ثم دلّهم بعد ذلك إلى سفح جبل يوجد فيه ماء حتى يأخذوا قيلولة ويتزودوا بالماء، فنزل الرجل التركي ونزع عنه ثيابه، فتأكد القوم من رقة ملامح جسده وصفائه مما يدل على خدمته للملوك وصدق فراره منهم. ([36]) ثم بدأ الرجل بخدمتهم فحطّ السروج عن الأفراس ووضع لها الحشائش لتأكل، وجهز المكان ففرشه لهم ليناموا مما دعاهم للقول: " يا فتى ما ألطفك في الخدمة. وأحسنك في الجملة فالويل لمن فارقته. وطوبى لمن رافقته. فكيف شكر الله على النعمة بك؟ فقال: ما سترونه مني أكثر. أتعجبكم خفتي في الخدمة. وحسني في الجملة. فكيف لو رأيتموني في الرفقة. أريكم من حذقي طرقا. " ([37]) فأطلق سهما في السماء وأتبعه بآخر فشقه، ثم عمد إلى كنانة عيسى بن هشام فأخذها وإلى فرسه فعلاه، ورمى اثنين بالسهام فقتلهما، وطلب من البقية أن يربط كل واحد منهم يد رفيقه، فلم يجدوا مهربا من فعل ما يريد؛ إذ هو راكب بيده سلاح والقوم مترجلون بعيدون عن أمتعتهم وأسلحتهم. وبقي عيسى بن هشام وحيدا دون أن يربط؛ فأمره بنزع ثيابه ففعل، ثم نزل عن فرسه وبدأ بصفعهم ونزع ثيابهم عنهم، ([38]) حتى وصل إلى عيسى بن هشام الذي يقول: " وصار إلي وعلي خفان جديدان. فقال: اخلعهما لا أم لك. فقلت: هذا خف لبسته رطبا فليس يمكنني نزعه. فقال: علي خلعه. ثم دنا إلي لينزع الخف ومددت يدي إلى سكين كان معي في الخف وهو في شغله فأثبته في بطنه... فما زاد على فم فغره " ([39]) .

فقد اتخذ عيسى بن هشام احتياطه كاملا أثناء سفره إذ تخير رفقة طيبة، وحمل معه سلاحه، وأخفى في خفه سلاحا تحسبا للطارئ، فلم يتوقع أن المكان سيكون ذا سطوة قاسية عليه وعلى رفقائه، فاعتدى عليهم الأسد، وخدعهم غلام اتخذ الحيلة منهجا؛ فهو فرد وهم جماعة لذا تركهم في شغل من أمرهم ثم أظهر لهم عداوته. ومرتكز الحيلة التي استخدمها هو استغلاله طمع الإنسان إذ وضع نفسه عبدا بين يدي عيسى بن هشام فصدق كلامه. وهنا تظهر أسباب خوف المرتحل من الرفيق الذي يظهر فجأة في الخلاء. ووفق المنظور الحكائي لا يمكن أن يوجد المكان منفصلا عن الزمان والشخوص والأحداث؛ فتتصارع معا في مساحة مكانية ليكون لها الدور الفاعل في تشكيل العقدة وصولا إلى الحل.



4ـ المكان المأوى:

هروبا من سلطة المكان وسطوة الخوف التي توجد في النفس البشرية، فإن الإنسان يلجأ إلى مكان حميم يشعره بالأمان، فيكون هذا المكان ملاذا يقصده المرء حتى يشحذ همته من جديد. وأبرز مكان يمكن أن يلتجئ إليه الشخص في الصحراء ـ باعتبارها خلاء ـ هي الخيمة؛ ومثال ذلك قول عيسى بن هشام في المقامة الأسودية: " كنت أتهم بمال أصبته، فهمت على وجهي هاربا حتى أتيت البادية فأدتني الهيمة. إلى ظل خيمة."([40]) ويظهر مباشرة دفء هذا المكان، عند قول أهل الخيمة لعيسى بن هشام: " بيت الأمن نزلت. وأرض القرى حللت " ([41])، وينتهي غرض الملتجئ إلى هذا المكان عند انتهاء غايته، وذلك دلالة قوله: " ثم عشنا زمانا في ذلك الجناب حتى أمنّا " ([42]) .

وفي المقامة الرقطاء يهرب الحارث بن همام من الأهواز لما فيها من شدة الفقر والظلم وسوء الحال؛ فيقول: " حتى إذا سرت منها مرحلتين، وبعدت سرى ليلتين، تراءت لي خيمة مضروبة، ونار مشبوبة. فقلت: آتيهما لعلي أنقع صدى، أو أجد على النار هدى. " ([43])؛ فقرن الحارث بن همام بين الخيمة والنار الدالة على كرم أهل هذه الخيمة وإكرامهم الضيف، ولذلك كان رجاؤه الحصول على الماء أو مرشدا يهديه الطريق. ويمثل لنا الحارث بن همام عذوبة هذا المكان بقوله: " فلما انتهيت إلى ظل الخيمة رأيت غلمة روقة، وشارة مرموقة، وشيخا عليه بزة سنية، ولديه فاكهة جنية، فحييته... وقال: ألا تجلس إلى من تروق فاكهته، وتشوق مفاكهته ؟ فجلست لاغتنام محاضرته لا لالتهام ما بحضرته! " ([44]). فعندما التجأ الحارث بن همام إلى هذا المكان ارتاح إليه؛ فوجد غلمة بأجمل هيئة، ووجد شيخا يلبس الثياب الحسنة الرفيعة التي تدل على مكانته، ووجد ما يشتهيه المرتحل: الجلسة الطيبة والفاكهة الشهية.

والأمر البيّن أن الذي يسير في الصحراء مدة أيام ينقص عنده الزاد والماء، ولذلك فإن طلب الراحة والزاد يكون عند رؤية المسافر للخيمة فيشعر بالألفة والطمأنينة لوجودها، فذلك عيسى بن هشام يقول في المقامة النهيدية: " ملت مع نفر من أصحابي إلى فناء خيمة ألتمس القرى من أهلها فخرج إلينا رجل حُزُقََّة فقال: من أنتم ؟ فقلنا: أضياف لم يذوقوا منذ ثلاث عروقا " ([45])؛ فواضح أن عيسى ابن هشام وجماعته طلبوا هذه الخيمة لأنهم أرادوا الزاد، لكن الرجل بدأ يصف لهم أنواع الطعام ويقول لهم: أتشتهونها يا فتيان؟ فيقولون: إي والله نشتهيها. فيقهقه ويقول: وعمكم أيضا يشتهيها. ([46]) حتى نفد صبر الجماعة؛ فوثبوا إلى أسيافهم. وقالوا: ما يكفي ما بنا من الدقع حتى تسخر بنا، فأتتهم ابنته بطبق عليه جلفة. وحثالة ولوية. وأكرمت مثواهم. فانصرفوا لها حامدين. وله ذامين ([47]).
[1] بحراوي، حسن (1990): بنية الشكل الروائي، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 31.
[2] الحريري، المقامة الرملية، ص ص 490ـ 491. أستقري: أتتبع.
[3] الهمذاني، المقامة الملوكية، ص ص 257- 258
[4] الهمذاني، المقامة الصيمرية، ص241
[5] الحريري، المقامة التفليسية، ص 359
[6] الحريري، المقامة الدمياطية، ص ص 39ـ 40. غدافية: مظلمة.
[7] الحريري، المقامة الدمياطية، ص45
[8] الهمذاني، المقامة الشيرازية، ص193
[9] انظر: الهمذاني، المقامة الشيرازية، ص193
[10] الهمذاني، المقامة الفزارية، ص ص81 ـ 82
[11] الحريري، المقامة الوبرية، ص ص 271 ـ273. خطارا: كثير الإهتزاز. هيعل: أذن. هجير: وسط النهار. اللغوب: الإعياء.
[12] الحريري، المقامة الوبرية، ص 277
[13] المصدر نفسه، ص 278. حصاص: العدو.
[14] المصدر نفسه، ص 277. قارظين: رجلان يضرب بهما المثل عند عدم العودة.
[15] الحريري، المقامة الوبرية، ص 277 - 278. الجأش: روع القلب عند الفزع.
[16] لقد حدد شاكر النابلسي أنواعا متعددة من الأماكن، انظر: النابلسي، شاكر (1994) : جماليات المكان في الرواية العربية، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص ص 12 – 24.
[17] الحريري، المقامة النجرانية، ص 440. الشنشنة: العادة.
[18] الحريري، المقامة الرملية، ص 319. علقي: أشغالي.
[19] المصدر نفسه، ص ص 319 ـ 320
[20] الهمذاني، المقامة الغيلانية، ص ص 46 ـ 47
[21] الهمذاني،المقامة الإبليسية، ص 208
[22] المصدر نفسه، ص 208
[23] الهمذاني،المقامة الإبليسية، ص 208
[24] المصدر نفسه، ص 210
[25] المصدر نفسه، ص ص 211 - 212
[26] الهمذاني،المقامة الإبليسية، ص 212. مذبة: المروحة.
[27] المصدر نفسه، ص 212
[28] الحريري، المقامة البكرية، ص 451. المطوح: المبعد. الخريت: الدليل الحاذق. المصاليت: الشجاع.
[29] المصدر نفسه، ص ص 451 ـ 452. المزؤود: الخائف. ذميل: سير متوسط.
[30] الحريري، المقامة البكرية، ص 452
[31] المصدر نفسه، ص ص 452 ـ 453
[32] الهمذاني، المقامة الأسدية، ص ص 36 ـ 37. الأمراس: الحبال.
[33] انظر: المصدر نفسه، ص 38
[34] الهمذاني، المقامة الأسدية، ص ص39 ـ 40
[35] المصدر نفسه، ص 40
[36] المصدر نفسه، ص39
[37] الهمذاني، المقامة الأسدية، ص 41
[38] انظر: المصدر نفسه، ص ص 41 ـ 43
[39] المصدر نفسه، ص 43
[40] الهمذاني، المقامة الأسودية، ص 159
[41] المصدر نفسه، ص 160
[42] المصدر نفسه، ص 163
[43] الحريري، المقامة الرقطاء، ص ص 258 ـ 259
[44] المصدر نفسه، ص 259
[45] الهمذاني، المقامة النهيدية، ص 202
[46] انظر: المصدر نفسه، ص ص 202 ـ 206
[47] انظر: المصدر نفسه، ص ص 206 ـ 207

بناء الزمن والحبكة الروائية من خلال حكاية شيخ الشاذروان

ـ بناء الزمن والحبكة الروائية من خلال حكاية شيخ الشاذروان.


من أهم ما يميز أدب الجاحظ محاكاته الواقع ، إذ أنه يصور كل ما يدور من أحداث بين الناس من خلال نظرة الجاحظ الخاصة للأمور . وتتبعا لهذا الأمر فإن حكايات الجاحظ ـ غالبا ـ تتميز بزمن ومكان خاصين . الزمن يأتي على بعدين: عام وخاص . البعد الزمني العام يشمل جميع صور عصر الجاحظ وهو مصدر كتابه . أما البعد الزمني الخاص فيقوم على التحديد الوقتي لكل حادثة موضوع صورة من الصور. فالحادثة قد تدور في الليل أو النهار أو عند الظهر أو الغروب ([1])

أما تركيزنا على الزمن في الحكاية هو أبعد مما ذكرناه، حيث أن زمن الحكاية هو زمن مزدوج ؛ فهناك زمن الحكاية نفسها بوصفها تسلسلا زمنيا ، وهناك زمن الخطاب أي ترتيب السارد للأحداث في النص القصصي . وهذا التقسيم يقودنا إلى ثلاثة ضروب من أنواع تحاليل الحكاية :

أ ـ العلاقات بين النظام الزمني لتتابع الأحداث في الحكاية والنظام الزمني لترتيبها في النص .

يهتم هذا القسم بدراسة الترتيب الزمني للنص القصصي على المقارنة بين ترتيب الأحداث في النص القصصي وترتيب تتابع هذه الأحداث في الحكاية . ويفيدنا هذا القسم في دراسة الحكايات التي لم تنظم حسب تسلل أحداث الحكاية بل بالاعتماد على تصور جمالي أو مذهبي يجعل السارد يتصرف في تنظيم هذه الأحداث في نطاق نصه القصصي . ([2])

وهكذا ، يظهر في النص تنافر بين ترتيب أحداث الحكاية ،وترتيبها في النص القصصي ؛ فقد يتابع الراوي تسلسل الأحداث طبق ترتيبها في الحكاية ثم يتوقف ، وهنا يظهر التنافر الذي يأتي على نوعين :

ـ السوابق :
عملية سردية تتمثل في إيراد حدث آت أو إشارة إليه مسبقا وهذه العملية تسمى في النقد التقليدي بسبق الأحداث ([3])

ـ اللواحق :
عملية سردية تتمثل بالعكس من حيث إيراد حدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد وتسمى هذه العملية ـ أيضا ـ بالاستذكار . ([4])

ب ـ العلاقات بين الديمومة النسبية للأحداث في الحكاية وديمومة النص ( أي طوله) وهذه العلاقات ترتبط بمفهوم النسق .

يتمثل تحليل ديمومة النص القصصي في ضبط العلاقة التي تربط بين زمن الحكاية(*) الذي يقاس بالثواني والدقائق والساعات والأيام .. إلخ ، وطول النص القصصي(**) الذي يقاس بالأسطر والصفحات والفقرات والجمل . وتقود دراسة هذه العلاقة إلى استقصاء سرعة السرد والتغييرات التي تطرأ على نسقه من تعجيل أو تبطئ له . ([5])
ولهذا القسم أربعة أنساق هي :

1 ـ المجمل :
وهو سرد أيام عديدة أو شهور أو سنوات من حياة شخصية دون تفضيل للأفعال أو الأقوال وذلك في بضعة أسطر أو فقرات قليلة . وبهذا يكون زمن النص أقل من زمن الحكاية . ([6])

2 ـ التوقف :

وهو التوقف أو القطع الحاصل من جراء المرور من سرد الأحداث إلى وصفها، أي الذي ينتج عنه مقطع من النص القصصي (زمن النص) تطابقه ديمومة تساوي صفراً على نطاق الحكاية ( زمن الحكاية الحقيقي) ، وذلك كأن يتحدث الكاتب ـ مثلاً ـ عن رأيه الخاص في حدث ما من أحداث الحكاية. وهكذا، فإن " الوصف التقليدي يشكل مقطعا نصيا مستقلا عن زمن الحكاية إذ أن الراوي عندما يشرع في الوصف يعلق بصفة وقتية تسلسل أحداث الحكاية أو يرى من الصالح قبل الشروع في سرد ما يحصل للشخصيات توفير معلومات عن الإطار الذي ستدور فيه الأحداث "([7])

3- الإضمار :

وهو الجزء المسقط من الحكاية أي المقطع المسقط في النص من زمن الحكاية . سواء نص السارد على ديمومة هذا الإسقاط ( كأن يقول : ومرت خمس سنوات )، أو ( كما في قوله : مشى زمانٌ وجاء زمانٌ ) . ([8])



4- المشهد :

يسمى المشهد تقليدا بالفترة الحاسمة ؛ فبينما يقع غالبا تلخيص الأحداث الثانوية يصاحب الأحداث والفترات الهامة تضخم نصي فيقترب حجم النص القصصي من زمن الحكاية ويطابقه تماما في بعض الأحيان فيقع استعمال الحوار وإيراد جزئيات الحركة والخطاب . ([9])

ج ـ علاقات التوتر أو العلاقات بين طاقة التكرار في الحكاية وطاقة التكرار في النص .( [10])

التواتر في القصة هو مجموع علاقات التكرار بين النص والحكاية . وبصفة موجزة ونظرية من الممكن أن نفترض أن النص القصصي يروى مرة واحدة ما حدث مرة واحدة أو أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة أو أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة أو مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة . ([11])

الحالتان الأولى والثانية ( رواية الحدث مرة واحدة لما حدث مرة واحدة أو أكثر من مرة ) يسميان سردا قصصيا مفردا ، أما الذي يهمنا ـ بما يتوافق مع الحكاية التي سنحللها في هذا المبحث ـ القسمان الأخيران وهما :

أ ـ أن يروي الحدث أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة . فالكاتب يمكن أن يروي الحدث الواحد مرات عديدة بتغيير الأسلوب ، وغالبا باستعمال وجهات نظر مختلفة أو حتى باستبدال الراوي الأول للحدث بغيره من شخصيات الحكاية كما يبدو ذلك في الروايات المعتمدة على تبادل الرسائل ـ مثلا ـ ، وهذا الشكل من النصوص يسمى بالنص المكرر . ([12])

ب ـ أن يروي مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة . وفي هذا الصنف من النصوص يتحمل مقطع نصي واحد تواجدات عديدة للحدث نفسه على مستوى الحكاية ، وهذا ما يسمى بالنص القصصي المؤلف ([13]) .

ولا بد أن نشير إلى أن المحتويات الدلالية للحكاية هو الذي يشكل التقسيم الزمني فيها لتصل إلى لحظة الأوج التي يكون فيها الزمن صفرا على صعيد زمن الحكاية ، وفي الوقت نفسه هي قمة الأزمنة لما سبقها من زمن ونقطة الصفر التي تبدأ فيها الأحداث بالنهاية .

وليتسنى لنا أن نفصل أكثر في الزمن ، وما ترك ذلك من أثر في المفارقة وحبكة الحكاية ،لا مندوحة من وضع الحكاية للتطبيق حتى يكون الكلام أكثر إثباتا واستدلالا علميا ، والنص الذي سنقدمه هو ما ذكره الجاحظ من حكاية لشيخ من أهل خراسان . ونص الحكاية :

" كان على ربض الشاذروان شيخ لنا ، من أهل خراسان . وكان مصححا بعيدا من الفساد ومن الرشا ومن الحكم بالهوى ، وكان حفيا جدا ، وكذلك كان في إمساكه وفي بخله وتدنيقه في نفقاته ، وكان لا يأكل إلا ما لا بد منه ولا يشرب إلا ما لا بد له منه . غير أنه إذا كان في غداة كل جمعة حمل معه منديلا فيه جرذقتان ، وقطع لحم سكباج مبرد ، وقطع جبن ، وزيتونات ، وصرة فيها ملح ، وأخرى فيها أشنان ، وأربع بيضات ليس منها بد ، ومعه خلال . ومضى وحده ، حتى يدخل بعض بساتين الكرخ ، وينظر موضعا تحت شجرة وسط خضرة وعلى ماء جار . فإذا وجد ذلك جلس ، وبسط بين يديه المنديل ، وأكل من هذا مرة ومن هذا مرة . فإن وجد قيم ذلك البستان رمى إليه درهم ، ثم قال : اشتر لي بهذا ، أو أعطني بهذا ، رطبا ـ إن كان في زمان الرطب ـ أو عنبا ـ إن كان في زمن العنب ـ ويقول له : إياك إياك أن تحابيني، ولكن تجود لي ، فإنك إن فعلت لم آكله ولم أعد إليك . واحذر الغبن فإن المغبون لا محمود ولا مأجور . فإن أتاه به أكل كل شئ معه ، وكل شئ أتى به ، ثم تخلل وغسل يديه ، ثم تمشى بمقدار مائة خطوة . ثم يضع جنبه ، فينام إلى وقت الجمعة . ثم ينتبه فيغتسل ، ويمضي إلى المسجد . هذا كان دأبه كل جمعة … فبينا هو يوما من أيامه يأكل في بعض المواضع ، إذ مر به رجل فسلم عليه ، فرد السلام ، ثم قال: هلم عافاك الله . فلما نظر إلى الرجل قد انثنى راجعا ، يريد أن يطفر الجدول أو يعبر النهر ، قال له : مكانك ، فإن العجلة من عمل الشيطان . فوقف الرجل ، فأقبل عليه الخراساني وقال : تريد ماذا ؟ قال : أريد أن أتغذى . قال : ولم ذاك ؟ وكيف طمعت في هذا ؟ ومن أباح لك مالي ؟ قال الرجل : أو ليس قد دعوتني ؟ قال : ويلك ، لو ظننت أنك هذا أحمق ما رددت عليك السلام . الآيين فيما نحن فيه أن تكون ، إذا كنت أنا الجالس وأنت المار ، أن تبدأ أنت فتسلم ، فأقول أنا حينئذ مجيبا لك : وعليكم السلام . فإن كنت لا آكل شيئا سكت أنا وسكت أنت ، ومضيت أنت وقعدت أنا على حالي . وإن كنت آكل فها هنا آيين آ خر ، وهو أن أبدأ أنا فأقول : هلم ، وتجيب أنت فتقول : هنيئا . فيكون كلام بكلام ، فأما كلام بفعال وقول بأكل فهذا ليس من الأنصاف، وهذا يخرج علينا فضلا كبيرا ، قال : فورد على الرجل شئ لم يكن في حسابه " ([14]) (*).

هذه الحكاية طويلة نسبيا ـ إن نظرنا إليها من حيث الطول ـ ، ذلك أنها حكايتان في صيغة حكاية واحدة ؛ فالحكاية الأولى تصف تصرفات شيخ الشاذروان بشيء من التفضيل ضمن مدة زمنية حكائية طويلة ، والحكاية الثانية تمثل حوارا بين شيخ الشاذوران ورجل أراد السطو على طعامه ضمن زمن حكائي قصير .

وكان لهذا التقسيم الفريد ـ دمج حكايتين في صورة حكاية واحدة ـ أثر في تشكيل الحبكة الروائية ، فالحبكة في الحكاية الأولى جاءت مقدمة للحكاية الثانية وحبكتها التي ما إن تنتهي حتى تشكل لدى القارئ صورة واضحة عن شخصية الشيخ الخراساني، ومدى بخله عن غيره ،وإلزامه نفسه الضروري من الأمور . وهكذا فإن الحبكة العامة التي وسمت هذه الحكاية هي حبكة مركبة تصاعدت بتصاعد زمن الحكاية حتى وصلت إلى أوجها ثم بدأت بالهبوط وصولا إلى خاتمة الحكاية .

ولا بد لنا من دراسة كل قسم حكائي على حدى ليتسنى لنا تحديد الزمنية الداخلية للنص في ضوء المفارقة ، وهذه الأقسام هي :

1 ـ القسم الأول :
ـ الأحداث :

تتشكل الحكاية من اجتماع الجاحظ بإبراهيم بن السندي ؛ فيبدأ إبراهيم بسرد حكايته عن شيخ الشاذوران ، الذي كان مثالاً في كل شئ ،و كان مثالاً في النزاهة والرزانة، وكان مثالاً في البخل إلا أنه كان يدع البخل يوم الجمعة ؛ فيأخذ الأصناف المتعددة من الطعام ويخرج إلى الطبيعة حتى يروح عن نفسه ويستمتع في أكله ووقته . وحتى يزداد بذخا في هذا اليوم كان يطلب من قيم البستان ـ إن وجده ـ أن يشتري له ما يتفكه به ، وما أن ينتهي من الطعام حتى يمشي مقدار مئة خطوة ثم ينام إلى أن يستيقظ إلى وقت صلاة الجمعة .

ويمكن لنا أن نجد من خلال هذا الوصف السريع لنفسية هذا البخيل ـ مفارقة الأحداث ذلك أن وصف إبراهيم بن السندي لتصرفات الشيخ وأنه أشد ما يمكن في البخل تلفت الانتباه إلى أن ما سيقوم به يوم الجمعة ستكون الأمور الأشد في البخل ، لكننا نتفاجأ أن الطعام الذي يفترض أن يكون قليلا يجعله البخيل كثيرا بل إنه يسرف على نفسه ويتمتع بطعام توقعنا أن يبخل به على نفسه .

ـ بناء الزمن :

ـ هذا القسم الحكائي يتشكل من مقدمة تتحدث عن صفات الشيخ الخراساني فهي تشكل توقفا من الناحية الزمنية فهي لا تسرد حدثا أو تصف طريقة قيام بعمل ، بل تمثل وصفا سابقا لشخصية الخراساني يظهر جليا نهاية الحكاية في قسمها الثاني ، ثم يأتي الجانب الحكائي الذي يدور في يوم الجمعة ،وهو يقع في أحد عشر سطرا ضمن النص القصصي ، وهذه الأسطر الأحد عشر تمثل واقعا يقع ضمن أربع ساعات تقريبا، يقوم فيها الشيخ بالتجوال وتناول الطعام والمشي ثم النوم فالنهوض للاغتسال والذهاب إلى الصلاة . إذن ، زمن النص هو أقصر بكثير من زمن الحكاية، وهنا استخدم الكاتب طريقة التخلص حتى يتخلص من طول الحكاية ، وهذا النوع ما يعرف بالمجمل .

وإذا كان زمن النص أقصر بكثير من زمن الحكاية في القسم الحكائي السابق، فإن الأمر يختلف إذا أمعنا النظر في الأسطر الأخيرة من القسم الأول، وخصوصا المقطع الذي يخاطب فيه الخراساني قيم البستان فيتكافأ زمن النص مع زمن الحكاية ويتساويان. وفي نهاية الأمر يعاود الجاحظ استخدام التلخيص السريع للأحداث لينتهي القسم الأول وقد اتسم بالسرعة والتركيز على العموم من الأحداث .

أما إذا تساءلنا عن سبب استخدام التلخيص والمجمل من الكلام في هذا القسم ؛ فإن السبب ـ فيما أرى ـ كامن في نفسية الكاتب وهو أنه يريد أن يوصل حدثا معينا للقارئ وهو ما جرى للخراساني مع الشخص الذي دعاه إلى الطعام ، ولكن الكاتب إذا نقل هذا الحدث منفصلا عن مرجعيه معلوماتية حول الشخص الذي يتحدث عنه كانت الحكاية ستفقد كثيرا من حيوتها وجمالها ؛ فكان القسم الأول بمثابة القسم الذي يوجه الإنارة التي تزيل ما كان سيقع من ظلمة في القسم الثاني، لو لم يذكر القسم الأول .


ـ المفارقة :

تبرز المفارقة في هذا القسم بشكل متتابع ؛ فالأحداث سريعة متلاحقة مما يجعل النص غنيا بأنواع متعددة، وغير مقتصرة على نوع بعينه ، ومن المفارقات التي برزت في هذا القسم :

1ـ قوله : " كان على ربض الشاذوران شيخ لنا " ، هنا السارد يفتخر بهذا الشيخ لأنه خراساني ، ومن الغريب أنه يفتخر به ـ لقوله : " لنا " ـ ثم يتحدث عن نوادره وبخله، وكأن افتخاره أصبح للبخل وكأن البخل أصبح صفة تسم الخراساني ، وهذا ما يسمى بمفارقة النسب .


2ـ قوله : " غير أنه إذا كان في غداة كل جمعة " ، وقد كان يتحدث عن شدة بخله وتدنيقه ثم استخدم لفظة ( غير أنه ) ليضع استثناء لحالة كرم واحدة تحدث في يوم واحد من أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة ، فتميز هذا اليوم أنه يحدث فيه أهم الأحداث بالنسبة للخراساني إذ هو يكرم على نفسه فيه ، وهنا نجد مفارقة الزمن في استخدام يوم الجمعة نقطة زمنية للكرم .

وقد نجد في الفكرة نفسها مفارقة أخرى في نهاية القسم الأول هي مفارقة التكرار لقوله : " هذا كان دأبه كل جمعة " ؛ فالشيخ الخراساني يقوم بكل هذه الأعمال كل يوم جمعة دون أن يغير أعماله في هذا اليوم ، والملمح الجميل أن السارد لم يكرر ما حدث بل جعل هذه الحكاية التي تتكرر دائما ـ بالنسبة للخراساني ـ مقدمة مختصرة لاستثناء آخر سيغيّر على الخراساني صفو طقوسه التي يقوم بها في كل جمعة .

3ـ وصف الجاحظ للخراساني بأنه بعيد عن أي أمر مفسد وأنه من الأخلاق في أحسنها ثم يأتي بالنقيص لقوله : " وكذلك كان في إمساكه وفي بخله " فبعد أن رفعه إلى أعلى مكانة من الأخلاق ، والثناء أسقطه من تلك المنزلة إلى منزلة الوضاعة والبخل ، وهذا ما يسمى بمفارقة السقطة .


4ـ مفارقة المتعة / البذخ : وذلك ما نجد عليه الخراساني من أفعال يوم الجمعة ؛ فهو دائم البخل في جميع الأيام إلا أنه في يوم الجمعة يعوض ما ضاع عنه باقي الأسبوع، فهو يأخذ كمية لا بأس فيها من الطعام ، وإذ يريد أن يأكل فإنه يتخير أفضل الأماكن وأجملها ليأكل ؛ فلا بد ـ بالنسبة له ـ أن يترافق مع تمتعه بالطعام تمتع شاعري حتى يشبع أحاسيسه وترتاح نفسيته .

ونجد مفارقة المتعة في تصرفات هذا البخيل وحركاته ؛ فهو عندما يأكل لا يأخذ من صنف واحد فقط ، بل ينوع ويغير الطعام في كل لقمه يرفعها إلى فمه ، لا مندوحة من أن هذا التنويع والتغيير كامن في لا شعور الخراساني فهو يقوم بمجموعة أعمال عامة كل جمعة إلا أنها لا تتكرر حرفيا ، فهو يكره أن يستمر على وتيره واحدة ولذلك نجده في كل مرة يتخير مكانا مختلفا عن الآخر ،وربما يزور بستانا مختلفا . ويكون ألذ تمتع لديه في طريقة معاملة قيم البستان فهو لا يعطيه الدرهم بيده بل يرميه إليه بطريقه لا تخلو من الاستعلاء ـ فيما أرى ـ والتكبر لأنه سيشتري منه؛ فيضع الشروط والصفات التي يريدها في الأكل .


2ـ القسم الثاني :

ـ الأحداث :

تدور أحداث هذا القسم في مدة زمنية قصيرة جدا ـ إذا ما قورنت بالقسم الأول ـ ، لكن هذه المدة القصيرة لم تكن عائقا أمام الكاتب ، فوجدنا الوصف الكامل للحدث الذي تم خلال هذه المدة القصيرة بل إن الكاتب نقل لنا الحركات والنظرات والهيئة التي تم عليها الحدث بتفصيل دقيق .

وتلخيصاً للحدث ، فإن الجاحظ ينقل لنا لحظة تناول الشيخ الخراساني الطعام، وإذ مر به شخص ، فدعاه إلى الطعام ـ مجاملة ـ فحدث خلاف ما كان يتوقع الخراساني ، وما لم يكن يريده أن يحدث ، وهو تنفيذ المار لهذه الدعوة وعندها سارعت النفس البخيلة إلى السيطرة على الموقف وملك زمام الأمور بالرفض والنهي عن هذا الفعل .

وما حدث في اللحظة التي دعا فيها الخراساني المار وتلبيته الدعوة على خلاف ما كان يتوقع الخراساني هو ما يقع ضمن مفارقة الحدث .




ـ بناء الزمن :

قبل الحديث عن أي مرتكز فني ساهم في بناء زمن هذا القسم لا بد من الإشارة إلى وقت الحكاية بدقة ، وهذا ما تشير إليه الجملة الأولى من هذا القسم : ( فبينا هو يوما من أيامه يأكل ) وقد كان ذكر الجاحظ ما يفعله الشيخ في يوم الجمعة كاملا ، ثم اختصر كل ما ذكره سابقا حتى يصل إلى هذه النقطة ؛ وبهذا أصبح القسم الأول وما يحويه من حبكات قصصية تمهيدا فنيا جديدا ابتكره الجاحظ ليصل من خلال ذكر ما يحدث طوال الأيام الجزئية البسيطة التي حدثت في يوم من هذه الأيام . وعند النظر في الحدث الذي وقع في هذا القسم فهو لا يتجاوز سلاماً بين اثنين ثم مجادلة قصيرة لأن الرجل أراد الأكل مع الشيخ ، وبذلك فإن هذا الحدث كاملا لا بد وأنه حصل في مدة زمنية تقل عن عشر دقائق ، وهي مدة زمنية قصيرة قد يشير إليها أي كاتب آخر بجملة أو بعبارة .


قد لا نقف عند الإشارة الوحيدة إلى أن زمن النص يتساوى مع زمن الحكاية أو يزيد في بعض اللحظات . ويمكن لنا أن نبحث في فكرة أكثر عمقا ، وهي : لماذا تساوى زمن النص مع زمن الحكاية في هذا القسم ؟ وجواب هذا السؤال يحتاج إلى تفصيلات متعددة تختص بقراءة أسلوب الجاحظ وما نفذه من تقنيات فنية ساهمت في تضخم حجم النص .

من أبرز الأسباب التي ساعدت في تضخم النص أن هذا القسم هو الفترة الحاسمة بالنسبة للحكاية ككل ، فجاء إيراد هذا القسم على هيئة مشهد ، وهذا من شأنه أن يتحكم في السرد، فيتخلله ـ أحيانا ـ توقف زمني بسبب الانتقال من السرد إلى الوصف . ومن ملامح استخدام السرد إيراد الحوار بين الخراساني والرجل. أما من الملامح التي اتسم بها الوصف ؛ فهي التفصيلات الدقيقة للشخصين، وإظهار أدق تحركاتهما وتعابيرهما طوال هذا القسم .

بدأ الجاحظ هذا القسم بمقدمة يصف فيها مرور الرجل بالخراساني وأنهما ردا على بعضهما السلام ، ثم ينتقل مباشرة إلى الحوار لقول الخراساني : هلمّ عافاك الله. ثم نلمح توقفا زمنيا في النص عندما يصف الجاحظ حركة الرجل المار بقوله : ( فلما نظر إلى الرجل قد انثنى راجعا ، يريد أن يطفر الجدول أو يعبر النهر … ) ، ويعقد بعد ذلك حواراً يخاطب فيه الخراساني الرجل ، ثم يتوقف زمن النص مرة أخرى ليصف حركتي الرجلين بقوله : ( فوقف الرجل ، وأقبل عليه الخراساني ) ، ويتبع هذا الوصف حواراً دقيقاً لما دار بينهما من كلام ليتساوى زمن النص مع زمن الحكاية الفعلي ، إلا أن الملحظ على هذا الحوار أن الجملة الأخيرة منه جاءت وصفا متضمَنّاً داخل الحوار؛ فالخراساني عندما كان يوضح للرجل خطأه كان يصف له ما يفعل في كل حال يخاطبه فيها أي إنسان .

وهكذا ، نستطيع أن نقول : إن هذا القسم توقف زمنيا لثلاث مرات وجاء فيه السرد على هيئة الحوار ثلاث مرات ـ أيضا ـ ، ونتيجة لذلك نجد في هذا القسم تساوياً بين زمن نصه وزمن حكايته من حيث نسبة عدد الأسطر إلى زمن الحكاية، ومن حيث تصوير تفاصيل الحكاية حتى العابر منها ، ومن حيث عدد مرات تكرار التوقف الزمني ـ الذي يعد تضخما نصيا ـ ، وعدد مرات تكرار الحوار ـ الذي يعد نقلا حرفيا لما تم في الواقع ـ .

ـ المفارقة :
ـ المفارقة في قسمها الأخير :

تنوعت المفارقة في القسم الأخير من الحكاية ، وجاءت منها الأشكال المختلفة تبعا للموقف الذي استدعاها ؛ وبما أن القسم الأخير من الحكاية نصفه سردي يتسم بالحوار، ونصفه الآخر وصف يتسم بالتفصيل والتصوير ـ تراوحت المفارقة بين هاتين الجزئيتين فاتسمت المفارقة في القسم السردي بالمباشرة والسرعة نظرا لأن الحوار قصير ، أما المفارقة في قسم الوصف فجاءت أكثر حركة وتعكس نفسية الشخصيتين . وحتى يقتضي لنا أن نؤكد على صحة هذه الملاحظة سنأخذ المفارقة بجانب من التحليل في قسمين منفصلين :

أـ المفارقة في القسم السردي :
من مفارقات هذا القسم :
1ـ قوله للرجل عندما رآه : هلم عافاك الله .
هذه العبارة لا تتفق مع شخصية الشيخ الخراساني الذي وصفه الجاحظ أول الحكاية ، فكيف يكون في درجة عالية من البخل ، ويدعو الرجل إلى طعامه ؟!
هو في هذا اليوم (الجمعة) يناقض ـ فيما أرى ـ كل أعماله التي يقوم بها خلال أسبوعه ، وهو في هذه الدعوة إنما يريد أن يتشابه مع أفعال الكرماء من العرب ، بل إن جملته لا تتعدى كونها خصلة عربية حميدة ، وهو أراد أن يشبع ما تشكل لديه طوال الأسبوع من نقص لأفعال الكرم لكثرة قيامه بأفعال البخل ما عدا الجمعة . ولكن هذا البخيل سرعان ما يتراجع عن كلامه لإحساسه بأنه أخطأ عندما دعا الرجل ، فهو يكرم نفسه، لكن ما الذي دفعه إلى إكرام غيره ؟! ويدلنا على ذلك قول الخراساني نفسه نهاية الحكاية عندما امتنع الناس عن السلام عليه : " ما بي إلى ذلك حاجة ، إنما هو أن أعفي نفسي من ( هلم ) ، وقد استقام الأمر " ([15]) .

2ـ عندما رأى الرجل راجعا قال له : مكانك ، فإن العجلة من الشيطان .
أن يكون البخيل كريماً فهذا أمر شاذ حتى وإن كان ليوم واحد فقط ،ولكن هل يمكن للبخيل أن يظل كريما طوال اليوم ؟! نعم ، قد يظل كريما طوال اليوم ولكن ليس إن تعرض أحد إلى ما يخصه . وهذا ما حدث مع الشيخ الخراساني فهو كريم إلا إذا رأى أحداً قد يستفيد منه، أو يسطو عليه فتتحرر نفسيته البخيلة من جديد ويظهر مع هذا التحرر طبائع البخل الكامنة في نفسيته ، فتعود أموره إلى سجيتها ويظهر ما كان هو عليه طوال الأسبوع من بخل ، ومن ذلك وصفه موافقة الرجل على دعوته بأنها عمل من الشيطان ؛ فأي شخص يطمع في مال الخراساني، ويريد السطو عليه هو شخص يخلو من أي إنسانية . فتظهر لنا شخصية الخراساني المتناقضة من حيث اتخاذ الكرم ونقضه في الوقت نفسه بشكل من المفارقة النفسية .

3ـ أسئلة الخراساني المتتالية :( تريد ماذا ؟ ولم ذاك ؟ وكيف طمعت في هذا ؟ ومن أباح لك مالي ؟ ) فهذه الأسئلة المتكررة التي تفيد استنكار تلبية الرجل دعوة الخراساني إنما هي دليل على شدة فزع الخراساني من هول تصرف الرجل، وعلى شدة الأذى الذي ألحقه فعل الرجل في شعور الخراساني .

ومن الملامح المميزة في هذه المفارقة سؤاله الأول " تريد ماذا ؟ " فتقديم الفعل على الاستفهام هو إبراز لأهمية الفعل ، فالخراساني تفاجأ من فعل الرجل ولذلك عندما بدأ الكلام بدأ بالحديث عن أهم ما يفكر فيه ، وهو فعل الرجل المار .
قد نستفيد من احتواء هذه المفارقة على جانب كبير من اللغة في الاستفهام وفي تقديم الفعل (تريد ) ، ومن جانب آخر نستفيد من تصويرها لجوانب البخيل النفسية وردة فعله فيتشكل لدينا من هذه الجوانب ما يعرف بالمفارقة المركبة .


ب ـ المفارقة في قسم الوصف :
من مفارقات هذا القسم :
1ـ عندما رأى الخراساني الرجل يعبر الجدول أوقفه وأقبل عليه . فلم يجعل الرجل يأتي إليه ويشرح له الموقف لكنه يريد أن يبعد الرجل عن طعامه بأي طريقة، ولا يريده أن يقترب أكثر من طعامه خوفا عليه ولذلك هو الذي ذهب إليه . وهنا يمكن لنا أن نتخيل مفارقة السلوك الحركي هذه من خلال عيون المراقب لمجريات الحكاية ؛ فسيكون غريبا وقوف الرجل وقدوم الخراساني إليه .


2ـ تعليل الخراساني سبب رفضه لأكل الرجل معه ، واستخدام الشرح والتوضيح المفصل الذي يتخذ جانبا علميا دقيقا في التفسير، واستخدام الدليل الواضح إذ أن الكلام لا بد أن يقابله كلام أما أن يقابله فعل ؛ فهذا مما لا يجوز ، وهكذا فإن كلام الخراساني يدخل ضمن المفارقة المنطقية إذ استغل الجوانب العلمية طريقة لتبرير سبب بخله .



ـ المفارقة في الحكاية كاملة :

الزمن الواقع في يوم الجمعة هو زمن غريب بالنسبة لشيخ الشاذوران ؛ فهو بخيل جدا لا يأكل إلا ما لا بد منه ، ثم نراه يوم الجمعة يجود على نفسه ويكرمها . وهو ـ أيضا ـ بعيد عن الحكم بالهوى لكنه يخطئ ويدعو الرجل إلى طعامه . فيتضح لنا أن كرمه في يوم الجمعة ما هو إلا مظهر شكلي ينفج فيه على غيره ، فما أن يتعدى أحد على ما يملك إلا وظهر على حقيقته الفعلية ، فالقيمة الشكلية التي يريد أن يتمثلها وهي قيمة الكرم عند العرب لم يستطع أن يتحمل عواقبها إلا بعودته إلى قيمه الجوهرية من البخل، وعدم المحاباة . فالجاحظ ـ غالبا ـ ما كان يأتينا بالبخيل وهو يستخدم الحيلة حتى يتهرب من موقف مشابه لهذا الموقف لكنه في هذه الحكاية يأتينا بشخصية متميزة ، شخصية بخيل حفي لا يقبل التقلب على الوجهين ، لا يقبل الحيلة حتى يهرب من موقف أحرج منه .

وهكذا ، فإن أكثر ما تميزت به هذه الحكاية هو بناء زمنها حيث وظف الجاحظ الزمن أسلوبا ليأتي بالمفارقة متنوعة على هذا الشكل في الحكاية؛ فتدرجت الحبكة في الحكاية لتصنع متوالية من الحبك مشكلة ـ في النهاية ـ حبكة محكمة ، فيكون المشهد الأخير من الحكاية الموقف الحاسم الذي أنهاها .
([1] ) انظر : سعد : مع البخلاء ، ص40
([2] ) المرزوقي :نظرية القصة، ص79
([3] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص80
([4] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص80
(*) وهو الزمن الذي يمثل أحداث الحكاية على أرض الواقع، أي الزمن الحقيقي لحصولها.
(**) وهو الزمن الذي يصوره لنا النص من خلال جمله وأسطره.
([5]) المرزوقي: نظرية القصة ، ص89
([6] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص89 ـ 90
([7] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص90
([8] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص93
([9] )المرزوقي: نظرية القصة ، ص93
([10] ) انظر : المرزوقي : نظرية القصة ، ص78 ـ 79
([11] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص86
([12] ) المرزوقي: نظرية القصة ، ص87
([13] ) انظر : المرزوقي: نظرية القصة ، ص87 ـ 88
([14] ) الجاحظ :البخلاء ، ص ص 24 ـ 25
(*) انظر تتمة الحكاية وتحليلها ص 167 من هذا الفصل
([15] ) الجاحظ : البخلاء ، ص26

التناقضات النصية والسياق المكاني المتعدد مدخلا لتشكيل المقامة السنجارية

التناقضات النصية والسياق المكاني المتعدد مدخلا لتشكيل المقامة السنجارية.

إذا استوعب المرء التناقض بوصفه علاقة شكلية أو منطقية ( على مستوى الصرف)؛ فإنه يصلح لبناء أزواج دلالية متناقضة العناصر تشكل الدلالة القصصية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى نفي عنصر وهو المعنى السطحي، وإقرار عنصر آخر هو نقيض العنصر المنفي أو المرفوض، أو هو المعنى العميق الذي يسعى الكاتب إليه ([1])، وكلما زادت حدة التناقضات داخل النص وتنافرت، كانت الفرصة أكبر لارتقاء مستوى النص فنيا.

ويتجاوز " المكان بواسطة اللغة على نحو يتجاوز قشرة الواقع إلى ما قد يتناقض مع هذا الواقع، غير أنه يظل على الرغم من ذلك واقعا محتملا، إذ إن جزئياته تكون حقيقية، ولكنها ستدخل في سياق حلمي يتخذ أشكالا لا حصر لها"([2])، ونحن عندما ننظر إلى المكان نظرة تناقض ـ وهو ليس المدخل الوحيد لدراسة المكان ولكنه أبرزه ـ يحدث نوع من التجدد المستمر لتشكيل المكان. والتناقض في المقامة السنجارية لم يأت ابتداعا أو إقحاما على النص، ولكننا نجده في مختلف أجزاء المقامة من أبسط صورها اللفظية إلى أكثرها تعقيدا. وحتى نتبين صور التناقض في هذه المقامة ينبغي لنا النظر في أحداثها.

ـ أحداث المقامة:

تقوم هذه الحكاية على دعوة أحد التجار من مدينة سنجار قافلة فيها الحارث ابن همام وأبو زيد السروجي، وذلك بعد أن دعا إلى وليمته أهل الحضارة والفلا. فوضع أمام الجمع مختلف أنواع الأطعمة ثم قدم أوعية زجاجية تحتوي على حلوى تشتهيها النفس؛ فما كاد القوم أن ينهالوا عليها حتى تباعد أبو زيد من مجلسه كالمجنون، ولم يعد حتى رفعت هذه الأوعية الزجاجية، ذلك أن الزجاج نمام، وهو يأبى الاجتماع مع نمام ليمين قد حلفها. فكان تصرف أبي زيد تمهيدا ليسرد قصته.

ومفاد قصته أنه سكن جوار جار اتضح أنه نمام بعدما أمن جانبه، وحدثه عن جارية عنده، لا يوجد لها في الجمال مجارية، فهي تغني وتزمر وترقص. وكان لحبه لها يحجب مرآها عن الشمس والقمر، ويمنع نفسه من الإفصاح عن خبرها، ولكن نكد الطالع جعله يسكر عند جاره النمام وأفصح بخبرها. ولما عاد له عقله عاهده الجار على أن يحفظ السر. وما هو إلا يوم أو يومان حتى قصد الوالي لإخباره خبر هذه الجارية، فبعث الوالي حاشيته على الفور ليساوموا أبا زيد في ثمنها على أن يتحكم بالسعر، فتمنع أبو زيد حتى توعدوه بالتقريع والضرب؛ فحظي أبو زيد بالذهب كرها، ولم يحظ الواشي بغير الإثم والشين؛ فعاهد الله تعالى مذ ذلك العهد، أن لا يحاضر نمّاما من بعد، والزجاج مخصوص بهذه الطباع الذميمة، ولذلك السبب لم تمتد إليه يمينه.

ثم سأله الجالسون عما فعله جاره النمام بعد ما بدر منه، فأجاب أبو زيد أن جاره أخذ في الاستشفاع والإصرار على استرجاع الصداقة فما أبعده إلا أبيات شعر أفقدته الأمل في استعادة الود، ومنها:
ونديم مَحَضْتُهُ صدق ودي إذ توهمته صديقا حميما
خلته قبل أن يجرب إلفـا ذا ذمام فبان جلفا ذميما
وتظنيته معينـا رحيمـا فتبينته لعينـا رجيمـا ([3])
فلما سمع ربّ البيت قَرِيضَهُ بوّأه مهاد كرامته، ثم استحضر عشر صحاف من الفضة فيها حلواء وعسل. وقال له: هذه الآنية تتنزل منزلة الأبرار، في صون الأسرار، فلا تولها الإبعاد. ثم أمر خادمه بنقلها إلى مثواه. ولما همّ أبو زيد بالانصراف استهدى الصحاف، ثم قال للآدب: إن من دلائل الظُرف، سماحة المهدي بالظَرف. فقال: كلاهما لك والغلام، ثم قال أبو زيد: لست أدري أأشكو ذلك النمام أم أشكر، وأتناسى فعلته التي فعلها أم أذكر. ([4])

فمن خلال أحداث هذه المقامة نلحظ أنها تطرح تناقضا ضديا، وتجعل البطل في حال بين التناقضين الأمر الذي يدفع المتلقي إلى تدبر هذا التناقض فيطرح أحدهما ويبقي الأخر؛ إذ لا يمكن لمتناقضين أن يجتمعا في آن معا، بل لا بدّ من معنى عميق يلغي وجود المعنى السطحي.

ويمكن أن نمثل هذا التناقض من خلال المربع الدلالي التالي:

الجار النمام
(فعل سوء)
الجار النمام
(فعل خير)
أضاع الجارية
حصل على الغلام والغنيمة
الزمن السابق
الزمن الحاضر
الخسارة
الربـح
تناقض
تناقض
تناقض
تناقض
توافق
توافق
الاتجاه الإيجابي
الاتجاه السلبي
تناقض


وما يوضحه المربع الدلالي السابق وجود بنى متعددة تشكل في مجملها ما انتهى عليه النص من تناقضات نجملها فيما يلي:

1ـ تناقض الأحداث:

عند النظر إلى أحداث المقامة نجد أن للمكان دورا في اتجاه الأحداث من السلب إلى الإيجاب؛ فوجود أبي زيد في الزمن الماضي مجاورا لرجل نمام شحن النص بمشاعر كره لهذه الفئة الاجتماعية، وبرز جمال تناقض الأحداث في الزمن الحاضر لسرد حكاية الجار النمام، ذلك أن أبا زيد خلع مشاعر الكره على جاره النمام ليصبها على الزجاج؛ فكان الزجاج الأثر السلبي الوحيد الذي حصل في الزمن الحاضر والذي أعاد ذكرى الجار النمام لأبي زيد.

وما نلحظه من المربع الدلالي السابق أن المقامة تتشكل من بنيتين ضديتين بنيتي ( السلب/ الإيجاب )، إذ تحتوي كل بنية منهما على عدد من البنى، ليتشكل في النهاية صراع أبي زيد مع جاره النمام.

وعند النظر إلى علاقة هذه البنى مع المكان؛ فإنه يتبادر للذهن مباشرة نمط المقامة السردي. ذلك أن هذه المقامة تشكلت ضمن زمنين: زمن سابق بما يمثله من سلبية لأن أبا زيد وقع ضحية جاره النمام. وزمن نص حاضر بما يمثله من إيجاب لأن أبا زيد انتفع من قصة جاره النمام التي سردها فحصل على المال. ولذلك يصبح المكان ذا طبيعتين؛ ففي الزمن السابق المكان سلبي لانخداع أبي زيد، وفي الزمن الحاضر المكان إيجابي لأن أبا زيد انتفع من قصة الجار النمام.

وتتشكل أحداث المقامة بوجود تفاعل ما بين الشخوص في الزمنين المتناقضين ضمن إطار مكاني متعدد، الأمر الذي يبرز اختلاف رؤية أبي زيد من الجار النمام ليكون محور تناقض الأحداث ومصدرها. فذلك أبو زيد يشعر بالقهر بعد انتزاع الجارية منه، ويضع اللوم على الجار النمام. هذا حدث وقع في زمن سابق، ولكنه يترك أثرا نفسيا يمتد مع أبي زيد إلى الزمن الحاضر.


ويمكن أن نقول: إن هذا الاسترجاع العاطفي الذي حدث في الزمن الحاضر لأحداث المقامة دلالة على فنية الكاتب( الحريري ) وجودة سبكه. ذلك أنه صنع صراعا نفسيا عند أبي زيد امتد إلى زمن المقامة الحاضر ليكون لقصة الجار النمام أبلغ الأثر في إنشاء المقامة. ومن هذه الحبكة الفنية انطلق الكاتب، إذ تشارك أبو زيد مع الجلساء في همّه، وسبب كدره من الزجاج. ولما أسفر حديث أبي زيد عن قصة الجار النمام تعاطف الحاضرون معه، وأغدق الآدب عليه، فبرز تناقض الحدث بقول أبي زيد: ( لست أدري أأشكو ذلك النمام أم أشكر..... )؛ فالشكوى أعادتنا إلى الزمن الماضي( دلالة سلبية) ، والشكر توجه إلى الزمن الحاضر ( دلالة إيجاب ).

وبنيتا السلب والإيجاب تدفعنا إلى البحث في نازع تشكّلهما، ذلك أن الباحث في هذه الإثنينية لا بد له من قراءة المكان ببعده الهندسي والوجداني. فعند استحضار المكان ضمن البنية السلبية نلمح تعددا مكانيا يشابه ذلك التعدد المكاني ضمن البنية الإيجابية للمقامة. إلا أن بنيتي الإيجاب والسلب لم تستحوذا على المكان فتؤثرا به، بل كان المكان ذا أثر في تشكيل البنية الحكائية ضمن المخطط التالي:






المقامة السنجارية
قافلة
مجلس طعام
حكاية الجار النمام
إجزال العطاء
(إيجاب)
زمن

حاضر
دعوة

من سنجار
بسبب

الزجاج
استحسان

قريظه
البنية السلبية في المقامة السنجارية






بيت أبي زيد بيت الجار النمام
تجاور مكاني
حكاية الجار النمام
مجلس خمر
حصول الوالي على الجارية
الإفصاح

بخبر الجارية
زمن

ماضي




من خلال عنوان المقامة: ( المقامة السنجارية ) نستدل أن الأحداث ستتشكل في بيئة سنجار المكانية؛ فوجود القافلة في سنجار وقت الوليمة وجود عبثي لقول الحارث بن همام: ( فصادف نزولنا سنجار ) ([5])؛ فيلقي المكان ـ بدءا ـ إيجابية على الشخوص عندما يدعون إلى وليمة. ويشكل المكان في المقامة بنية إيجابية إلا أن البنية السلبية الوحيدة في هذه المقامة هي قصة الجار النمام وأماكنها، وهي ذات مدة زمنية نصية قصيرة تسرد أثناء الوجود في مجلس الطعام، فتعود على ساردها بالنفع بعد أن يرسل الآدب أعطياته إلى مثواه.

والمكان في البنية السلبية من المقامة ( قصة الجار النمام ) متعدد، لوجود بيت أبي زيد، وبيت الجار، ومجلس الخمر، ومجلس الوالي. ولكن طبيعة التحرك ضمن هذه الأماكن هو تحرك سلبي أثّر في أبي زيد. فتعدد المكان في هذه المقامة هو محرك أحداثها ومشكل تناقضاتها، فما كانت الحكاية لتكون لولا تجاور بيت أبي زيد لبيت النمام؛ فالبيت من " أكثر الدواخل المكانية انتشارا، وأكثرها قدرة على احتواء الأفكار والمشاعر، وأكثرها قدرة على طرح حميمية العلاقة بين الإنسان والمكان" ([6]). ومجلس الخمر ـ أيضا ـ يلقي سلبيته على أبي زيد عندما يفصح بخبر الجارية؛ ليكون هذا المكان إيذانا بفشل أبي زيد في إخفاء جاريته.

والمكان في زمن المقامة السنجارية الحاضر يغدق علينا بإيجابيته التي بدأت عند دعوة القافلة إلى الطعام، وانتهت عند انتهاء الأعطيات إلى مثوى أبي زيد. ومن هنا تتشكل التناقضات في المقامة، بعد النظر في دلالات الأماكن ما بين الزمن السابق ( قصة الجار النمام ) والزمن الحاضر ( دعوة الطعام ). ففي الزمن السابق أضاع أبو زيد الجارية بما يمثله هذا الحدث من خسارة، وتظهر النقيضة في الزمن الحاضر بعد حصول أبي زيد على الأعطيات والغلام بما يمثله هذا الحدث من مكسب مادي.

ويتخذ التناقض ملمحا وجدانيا من خلال أثر المكان في نفسية أبي زيد، فإبان وجوده في مجلس الخمر وبوحه بخبر الجارية نستكشف أن المجلس أثقل همّه على أبي زيد لقوله: " فاتفق لوشك الحظ المنحوس، ونكد الطالع المنحوس، أن أنطقتني بوصفها حميا المرام، عند الجار النمام. " ([7]) ، وهذه صورة مغايرة لحال أبي زيد وهو في مجلس الطعام يصف الجارية لقوله: " كنت أزدري معها حمر النعم، وأحلي بتمليها جيد النعم، وأحجب مرآها عن الشمس والقمر" ([8])؛ ففي الحالتين يصف الجارية ويخبر بأمرها، إلا أن إفشاء خبرها في مجلس الخمر متلازم مع ألم أبي زيد وشعوره بالأسى، أما إفشاء خبرها في مجلس الطعام يوحي بسعادة أبي زيد وفخاره لأنه حظي يوما بمثل هذه الجارية، ففحوى الكلام واحدة لكن طبيعة المكان أدت دورا في تشكيل نفسية أبي زيد.


2ـ تناقض الشخصيات:

ويتجاوز وجود التناقض في الأحداث فحسب، وإنما يظهر أيضا عند شخصيات المقامة، وأخص منها الشخصيتين الرئيستين: أبا زيد والجار النمام. ويبرز التناقض عند هاتين الشخصيتين لأن أبا زيد هو من وقع ضحية ثم أنصف، والجار النمام هو الذي آذى أبا زيد بفعلته. وسبب التناقض في هاتين الشخصيتين أن كاتب المقامة رسم صورة للشخصيتين في أماكن متعددة وفي زمنين مختلفين.

وخداع الجار النمام لأبي زيد عندما عاهده على حفظ السر في مجلس الخمر هو الحدث الأبرز في المقامة والذي اختفى في أغوار أبي زيد النفسية المعتمة، فسارع أثر هذه اللحظة في الظهور بعد مرور زمن عليها عندما بثّ الكاتب دالا ( الزجاج ) في المقامة ليتشكل عند أبي زيد مدلولا مرتبطا بفكرة الخداع. ومع أن أبا زيد تباعد عن مكان وجود الجار النمام إلا أن ألم الحدث يعيش فيه، ولذلك ظهرت ردة فعل عنيفة من قبل أبي زيد عندما رأى الزجاج، وذلك نصّ قول الحارث بن همام: " نشز أبو زيد كالمجنون، وتباعد عنه تباعد الضب من النون. " ([9])؛ فلم يعد هذا الحدث حبيس صدره، بل تجاوزه إلى ردة فعل كادت تفقده صوابه.

هذه هي صورة أبي زيد الذي خدعه الجار النمام، إلا أن تغير الزمان والمكان لم يكونا كفيلين بتغير شعوره، ذلك أن حركة الشخوص ونشوء الأحداث في هذه الأماكن ما كانت لتغير ألمه عند تذكر أمر الجار النمام، ولكن وجوده في المكان الحميم ( مجلس الطعام ) عند اجتماع عدد كبير من الناس ومشاركته إياهم ألمه قد خفف عليه همّه، بل كاد يزول هذا الهمّ عندما أغدق الآدب عليه. فالمكان بطبيعته الهندسية أو الجغرافية المجردة لا يحمل إلا صورة عن هذا المكان، توصف بالرغبة أو الرهبة، ولكن أثر المكان يبرز عند تغير الزمان وتحرك الشخوص لتتغير الأحداث وتتجدد.

وصورة الجار النمام في المقامة منذ بدايتها هي صورة متناقضة، وذلك قول أبي زيد فيه: " فمازجته وعندي أنه جار مُكاسر، فبان أنه عِقاب كاسر، وآنسته على أنه حِبّ مُؤانس، فظهر أنه حُبَاب مُؤالس. ومالحته ولا أعلم أنه عند نقده، ممن يُفرَح بفقده. وعاقرته ولم أدرِ أنه بعد فَرِّه، ممن يُطرب لمَفرِّه. " ([10])؛ فهي صورة تناقض بين حالين؛ فإكراما للتجاور المكاني بينهما يصف أبو زيد الجار بوصف حميد، ولكن هذا التجاور كشف عن الصورة الحقيقية لهذا الجار؛ فاتضح سوء معشره.

وعلى النقيض تماما؛ فإن صورة الجار النمام تحسنت وفق منظور أبي زيد عندما أغدق الآدب عليه. فبُعد الجار النمام مكانيا لم يؤثر مباشرة في أبي زيد، بل إن اختلاف السياق المكاني أثّر في الفضاء المحيط للمكان من شخوص وزمان وأحداث وحبك جديدة، مما أدى إلى تغيير رؤية أبي زيد؛ فالمكان في الزمن السالب متصل بالخسارة، وهذه الخسارة أدت إلى الحقد على الجار النمام، مع أنه كان من الأجدى أن يلوم نفسه ويبتعد عن السكر، لكن نفسية بطل المقامة تأبى الهزيمة واللوم. والمكان في الزمن الموجب ( الحاضر ) يتشكل ضمن زمنين: الزمن السالب، وهو زمن مأزوم عند أبي زيد. والزمن الموجب، وفيه ترتاح نفسية أبي زيد إذ يعامل باحترام ويُستمع إليه، ناهيك أن طبيعة المكان ( مأدبة الطعام ) تدفع المرء إلى الإيجابية، فكيف بنا ونحن نرى أبا زيد وقد أغدق عليه!

وهكذا، فإن التأرجح بين أمكنة متعددة ضمن زمنين مختلفين، أدت إلى تشكيل تناقض بارز في النص، ظهر في أحداث المقامة، واستوعبته شخصيتاها الرئيستين، ليكون المكان عنصرا حكائيا مؤثرا في العمل الأدبي دون أن يكون منفصلا عن العناصر الحكائية والفنية الأخرى.

[1] المرزوقي: نظرية القصة، ص ص 130ـ 132
[2] عثمان، اعتدال (1998): إضاءة النص: قراءة في الشعر العربي الحديث، ط1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص7.
[3] الحريري: المقامة السنجارية، ص 186. محضته: أخلصته.
[4] انظر: المصدر نفسه، ص ص 176 ـ 189
[5] انظر: الحريري، المقامة السنجارية، ص ص 176
[6] صالح، صلاح (يونيو 1996): مثنوية الظهور والتواري في المكان الروائي العربي، علامات، ج2، م 5، ص 265.
[7] انظر: الحريري، المقامة السنجارية، ص 181
[8] المصدر نفسه، ص 181
[9] الحريري، المقامة السنجارية، ص 178
[10] الحريري، المقامة السنجارية، ص 179. حباب: حية. مؤالس: غادر خوان مخادع.

فضاء المفارقة والفضاء المكاني في المقامة البغدادية

¨ فضاء المفارقة والفضاء المكاني في المقامة البغدادية.([1]


عند دراسة المفارقة في ضوء النظرية المكانية لا بد عندها من التنبه إلى تفصيلات المكان وتنوعها؛ فأي وصف مكاني بسيط أو غير ظاهر في النص ويعتبره الآخرون أمرا اعتياديا قد يكون المفتاح الذي يسقطنا في هالة مليئة بالمفارقات التي ينبغي على المرء أن يستثمر تنوعها، ويوظفها بما يخدم النص.([2]) ولا ننسى ـ أبدا ـ أن هذا الاتساع في أفق المفارقة هو الذي يخلق المتعة في قراءة النص، إذ إن هذه المتعة لا تنتهي باكتشاف المفارقة، ولكن المتعة في تحريك هذه المفارقة الشخصيات لتتشكل مفارقات متسلسلة، وهكذا دواليك.

والنص الجيد لا يضع أمامنا مفارقة وينتهي بانتهائها، ولكن جودة النص ـ فيما أرى ـ تتمثل في اعتماده على تنوع مستويات راقية للمفارقة، وهذا كلام لا يقودنا إلى إلزامية تمتع النص بتعددية أنواع المفارقة([3])؛ فقد نجد نصا يحتوي على نوع واحد من المفارقة، وهذا يكفي. ولكن تتمثل جودة أسلوب الكاتب في طريقته التي يدعم فيها هذا النوع من المفارقة بمفارقات إضافية تقوم على رفع مستوى المفارقة الرئيسة في النص، كما هو الحال في عديد من المقامات التي قدمها الهمذاني والحريري. ومن أمثلة ذلك الحكاية التي يشكلها الهمذاني في المقامة البغدادية صانعا مفارقة رئيسة هي مفارقة الأحداث.



ـ مفارقة الأحداث:

تتمثل أحداث المقامة بأن عيسى بن هشام اشتهى الأزاذ وهو ببغداد، ولم يكن يملك مالا، فذهب إلى الكرخ علّه يجد فرصة في الحصول على ما يشتهي، فإذا بسوادي يسوق حماره. فقال عيسى بن هشام: ظفرنا والله بصيد. فأقبل عليه يقول: حياك الله أبا زيد. ويسأله عن أحواله. والسوادي يقول: لست بأبي زيد، ولكني أبو عبيد. فادّعى عيسى بن هشام نسيانه لبعد الاتصال به، ثم سأله عن حال أبيه؛ فأجاب بأنه انتقل إلى رحمة الله وجنته. فمدّ عيسى بن هشام يديه إلى ثوبه يريد تمزيقه ليوهم السوادي أنه حزين على فقدان هذا الأب. فناشده السوادي بالله أن لا يمزقه. وليحصل عيسى بن هشام على مراده دعا السوادي إلى الغذاء وخيّره بين الذهاب إلى البيت أو السوق، ورجح السوق لأن طعامه أطيب وأقرب.

وهنا نلمح أن المفارقة عنصر بارز في التحرك المكاني؛ فالشخصية الراوية موجودة في بغداد، وتنتقل إلى الكرخ ثم تسعى للذهاب إلى السوق. وحتى يحصل الراوي على الطعام؛ فإنه يستكمل صنع المفارقة التي تتخذ جغرافية واسعة فضاء مكانيا لها.

وقد طمع السوادي عندما دعي إلى الشواء، ولما يعلم أنه وقع ضحية حيلة عيسى بن هشام الذي جاء إلى الشوّاء وتخير أجود ما لديه من أطعمة، ثم ذهب إلى صاحب الحلوى وطلب وزن رطلين من اللوزينج. ثم شمر الاثنان عن ذراعيهما حتى استوفيا الطعام. وهنا أنهى عيسى بن هشام دوره، وحصل على مراده من الطعام؛ فقال للسوادي: " يا أبا زيد ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج ليقمع هذه الصارة ويغثأ هذه اللقم الحارة. اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقاء." ([4]) ثم خرج وجلس في مكان يخوله من رؤية السوادي حيث لا يراه؛ فلما أبطأ عليه قام السوادي إلى حماره، فاعتلق الشواء بإزاره. وسأله عن ثمن ما أكل فأجاب بأنه ضيف؛ فلكمه لكمة، وثنى عليه بلطمة فجعل السوادي يبكي ويقول: " كم قلت لذاك القريد. أنا أبو عبيد. وهو يقول: أنت أبو زيد " ([5]) .

إذن، تتمحور مفارقة الأحداث حول صانع المفارقة عيسى بن هشام الذي يشكل نص المفارقة: الأحداث التي كان لصانعها الدور الأكبر في توجيهها، ذلك أن فكرة المفارقة كانت بمثابة إلهام تنزل على عيسى بن هشام، ليصبح الشخصية العليمة في النص فيتخذ خطوات محددة ليوجه الأحداث حتى تنطلي المفارقة في النهاية على الضحية (الرجل السوادي). وكان السوادي ( ضحية المفارقة ) المغلوب على أمره، فخدعه عيسى بن هشام وأجرى مفارقته عليه؛ ثم أقرّ في النهاية بانطلاء الحيلة عليه. ويمكن أن نقرأ أحداث هذه المقامة قراءات تأويلية فينفتح النص على أنواع أخرى من المفارقة نجملها في الصفحات التالية.


ـ تعدد المفارقات:

عند التدقيق في مسار أحداث المقامة يتولد لنا عدد من المفارقات؛ فتظهر المفارقة الدرامية في النص عند محاولة عيسى بن هشام تمزيق ملابسه حزنا على وفاة والد السوادي، ونجح عيسى بن هشام في إتمام مفارقته بعد أن انطلت الحيلة على السوادي. وهنا لا مندوحة من الإشارة إلى أن نجاح عيسى بن هشام في مفارقاته لأنه استحضر شخصية صانع المفارقة (المحتال) والذي يسمى ( الألازون )([6])، وكانت هذه المفارقات سهلة متيسرة التنفيذ لأن الضحية التي اختارها عيسى بن هشام رجل ساذج من القرية لا دربة له في أمور المدينة، ولا خبرة عنده في حيلهم.
وتظهر في نهاية المقامة مفارقة لغوية على لسان السوادي تمثل انخداعه وسذاجته بقوله: ( كم قلت لذاك القريد. أنا أبو عبيد. وهو يقول: أنت أبو زيد.)، فيدل ظاهر النص أن الرجل مستاء من فعل عيسى بن هشام، وموضع استيائه أن عيسى بن هشام أصرّ على معرفته السوادي، لتكون هذه الجملة السردية تلخيصا يجمل أحداث المقامة، وتفسر سلوك عيسى بن هشام وإصراره على معرفة السوادي. إلا أن النص يخفي مفارقة مغايرة لظاهره هي مفارقة خداع النفس فلولا طمع السوادي ومحاولة استغلال الجانب الإنساني لدى عيسى بن هشام لما انطلت عليه الحيلة، فوضع اللوم في نهاية المقامة على عيسى بن هشام، وأغفل جانبا مهما هو أن أحداث المقامة ما كانت لتتم لولا غفلته وسذاجته. وهذا يقودنا إلى مفارقة جديدة تشكلت في النص هي مفارقة الشخصيات وأثرها في تشكيل مفارقة السرد.


ـ مفارقة الشخصيات ومفارقة السرد:

تتنوع الشخصيات في هذه المقامة بين شخصيات رئيسة فاعلة في النص، وشخصيات ثانوية. والشخصيات الرئيسة الموجودة في النص هي:

ـ شخصية عيسى بن هشام الرجل الحاذق الذي تجاوز حد السلوك الإنساني؛ فكان كالصياد الذي يتخير فريسته فيضع الخطة المناسبة لاستغلال جانب إنساني لدى أهل السواد ( القرى ) هو سذاجتهم وثقتهم الزائدة في الناس.

ـ شخصية السوادي الرجل الطيب الذي يبدو عليه انغلاب الحال، ذلك أنه يسوق حماره بكدّ وجهد فدلّ مظهره على سوء حاله، ناهيك عن طبيعة اللباس الذي يرتديه فهو يلبس إزارا يرد فيه أحد طرفيه على الآخر بما يعقد بينهما، فاستخدم عقدة لربط طرفي الإزار؛ مما يدل على سوء حاله إذ لم يستخدم رباطا لشد طرفي الإزار.

وظهرت هذه الشخصية في النص على أنها الشخصية الضعيفة التي انطلت عليها مفارقات عيسى بن هشام، فكانت منقادة لكلامه تتوجه حيثما توجه وتتبع تعليماته، ونجد ذلك عندما قال له عيسى بن هشام: " اجلس يا أبا زيد حتى نأتيك بسقّاء." ([7])؛ فجلس السوادي ولم يطاوع مكانه إلى أن أطال الإبطاء عليه. وظهرت سذاجة السوادي عندما حاول خداع عيسى بن هشام للحصول على الطعام وقبول دعوة الغذاء إلا أن السوادي ضحية مفارقة لا صانعها؛ ففشلت محاولته.

وتظهر لنا شخصية رئيسة غير فاعلة في النص وهي شخصية الكاتب الهمذاني عندما قال: " حدثنا عيسى بن هشام " ([8])؛ فتشير لفظة ( حدثنا ) إلى سارد يضمن كلام سارد آخر، ليصبح هذا النمط نوعا من التبئير السردي، فيتضمن فيه حكاية داخل حكاية.

وهناك عدد من الشخصيات الثانوية التي ورد ذكرها في النص؛ أهمها شخصية الشوّاء الذي احتال عيسى بن هشام عليه، وترك السوادي وراءه حتى يأخذ بحقه منه؛ فظهرت لنا مفارقة الغفلة عندما قال السوادي للشواء: " أكلته ضيفا" ([9])؛ فغضب الشواء من هذه السذاجة ظنا أنها طريقة في الاحتيال، فلكمه حتى أخذ المال. وجملة ( أكلته ضيفا ) تحمل مدلولين، الأول، أن السوادي قد أكل الطعام ضيفا، ولا ينبغي له أن يتحمل تبعاته؛ فكانت محاولة لخداع الشواء لكن الحيلة فشلت لأن السوادي وقع ضحية حيلة أقوى هي حيلة عيسى بن هشام. والثاني، أن الشوّاء رجل يسعى لرزقه ولا يهتم إلا بتقديم الطعام في أفضل صوره ليحصل على ثمنه، ولذلك عامل السوادي بشدة عندما حاول استغفاله.

ومن الشخصيات الثانوية أيضا: صاحب الحلوى، والسقّاء الشخصية الوهمية التي اختلق عيسى بن هشام وجودها فكانت حجة لهربه، ووبالا على السوادي الذي قصمت الحيل ظهره.

ومما نلحظه في بناء الكاتب لشخصيات المقامة أنه أنشأ صراعا بين عيسى ابن هشام والسوادي، لكن عيسى بن هشام ظهر في النص على أنه الشخصية العليمة، فكان رجوح الانتصار لعيسى بن هشام حتى يكون العنصر الفاعل في تشكيل أحداث المقامة، الأمر الذي كان له أثره في أسلوب السرد؛ فكثر السرد بأسلوب الشرح والتوضيح والوصف على لسان عيسى بن هشام لأنه يريد خداع السوادي. وأما جمل السوادي السردية فكانت مختصرة إذ تكلم السوادي في أربعة مواضع فقط؛ عندما ردّ بأن اسمه أبو عبيد وليس بأبي زيد، وعندما خبر عيسى ابن هشام عن موت أبيه ثم مناشدته إياه أن لا يمزق ثوبه، ثم في النهاية ما دار بينه وبين الشواء. بينما يصور النص أفعالا متعددة للسوادي من سوقه الحمار بجهد، ومن قبضه يدي عيسى بن هشام أن لا يمزق الثوب، ثم أفعاله في السوق من تناوله للطعام فأكله الحلوى ثم انتظاره السقاء.

هكذا؛ فإن مقارنة زمن النص بين وجود شخصية عيسى بن هشام والسوادي تنبئ بأن زمن النص يغلب عليه وجود شخصية عيسى بن هشام الأمر الذي يدل على أهمية هذه الشخصية في الحكاية ليتهيأ لنا أن الهمذاني نقل تحكمه في أحداث الحكاية عن طريق عيسى بن هشام الذي ظهرت سلطته في تحريك الشخصيات في المكان، وأثر التحرك في المكان على سلوكها.

وعند النظر إلى تنوع المفارقات في النص السردي، وعلاقة هذا التنوع بتشكل فضاء مكاني، نلمح عندها عددا من الثنائيات الضدية؛ فالمكان عند عيسى ابن هشام كان مكانا سلبيا ثم تحول إلى مكان حميمي؛ إذ إنه بادئ الأمر كان يشعر بالجوع فأسقط ما يشعر به من انكسار نفسي على المكان، فجعله سلبيا، ثم هرب من سلبية المكان بحثا عن إيجابيته. وهنا لا بد من تضاد المكان حتى يحدث التعديل المطلوب في نفسية عيسى بن هشام، وهذا ما جعله يلجأ إلى مكان يكثر الطعام فيه، فذهب إلى الكرخ اشتهاء للأزاذ ثم ذهب إلى السوق، وتخير أماكن بيع الطعام فيه؛ فقصد الشواء وبائع الحلوى ثم قصد مكانا ليتناول الطعام. والذي يظهر في النص أن محال بيع الطعام توفر أمكنة ليتناول المشترون الطعام، ودليل ذلك أنه لم يدفع ثمن الطعام إلا بعد المغادرة، وأن الشواء كان يراقب المكان الذي يأكلون فيه، ولذلك أمسك بالسوادي عندما حاول الهرب قبل أن يدفع.

وفي نهاية الحكاية يلتجئ عيسى بن هشام إلى مكان يختبئ فيه من السوادي، وفي الوقت ذاته يراقب نجاح حيلته؛ والسبب أنه استلذ بالطعام ووجوده في أماكن يكثر فيها الأطعمة، لكن اللذة لا تكتمل إلا عند رؤية أثر نجاح الحيلة على السوادي.

وأما المكان في نظر السوادي فهو حميمي منذ بداية الحكاية إذ إنه انتقل من قرى العراق ذات الفضاء المكاني المحدود إلى مكان جغرافي أكثر تحضرا وازدهارا ليتشكل الفضاء المكاني في أوسع صوره. وازدادت ألفة المكان عند السوادي عندما دعي إلى الغذاء فأصبح المكان أكثر حميمية وألفة لأن السوادي انتقل من المشاهد والمعاين ليصبح عنصرا فاعلا في المكان؛ فهو يتحرك في هذه الأماكن متمتعا بأطايب الطعام الموجودة في السوق ليصبح هذا المكان ملاذا يهرب فيه من تعبه وجهده، وسرعان ما ينشب المكان أظفاره ليصبح مكانا معاديا يتعرض السوادي فيه إلى الضرب والإهانة والخداع. فيكون المكان تبعا لهذا الوصف عنصرا مؤثرا ومتأثرا في الإنسان؛ فوجود أماكن الطعام في السوق أثّر في شخصيات المقامة وتحركهم، وسلوك الشخصيات أثّر في نظرتهم لطبيعة المكان، فنقلوا إليها سلبيتهم وإيجابيتهم.

وأمر بيّن أن المقامة استمدت مظاهرها الحيوية من المكان؛ فكان المكان عاملا جوهريا في إنشاء الأحداث وتحريك الشخوص في الرقعة المكانية، ووجود أماكن الطعام وبيع التمر والشواء والحلواء في السوق دفعت لتشكل الرغبة النفسية لدى الشخصيات؛ فيبرر عيسى بن هشام غايته في الاحتيال على السوادي، ويبرر السوادي ـ ضمنا ـ قبوله دعوة عيسى بن هشام. وتبعا لهذا التناغم النصي لا مندوحة لنا من الوقوف على الظواهر الحضارية والإنسانية التي تشكلت ضمن هذا الفضاء المكاني.


ـ مظاهر الفضاء المكاني:

لا يخفى على القارئ أن تفاعل شخصيتي المقامة الرئيستين تمّ على جغرافية مكانية واسعة بما يحويه المكان من فضاء محيط به، لتحاول كل من الشخصيتين إتمام نص مفارقتها على الشخصية الأخرى، فلم يتأثر المكان وحده بحيلهما، وإنما شذور هذه الحيل انتقلت لتتفاعل مع محيط المكان الفضائي؛ فظهر ـ تبعا لذلك ـ عدد من الأشكال الحضارية كأنواع الأطعمة، والأعمال التجارية التي تتم في السوق من بيع وشراء، واهتمام أهل السوق بتجارتهم. وفي المرتبة الأولى نقول: إن تفاعل الشخصيتين ـ فيما بحثت ـ عكس جانبا إنسانيا وسلوكيا ينمّ عن فطرة الناس البشرية، ولسان حالهم في ذلك الوقت.

ولقد جلّت الجمل السردية التي حملت الوصف المكاني أبعادا حضارية، ويمكن لنا أن نربط علاقة بين الصورة الحضارية في النص والطبيعة البشرية لشخصيات المقامة؛ فقول عيسى بن هشام أول المقامة: ( اشتهيت ) لفظة تدل على جوع راوي المقامة مما جعل الأنماط السردية في المقامة تتشكل وفقا لمفتاح المقامة: ( اشتهيت ) اللفظة التي تدل على مكنونات نفس بشرية ليس معها عقد على نقد. ولذلك، فإن الحدث: ( قصد عيسى بن هشام الكرخ ) يوحي للقارئ بأن يتوقع سعي هذا الرجل الجائع ليتلذذ بوصف أنواع الأزاذ الموجودة، ولكن وعي الشخصية بأنها لا تملك نقدا دفعته لأن يقول: ( حتى أحلني الكرخ. فإذا أنا بسوادي.... )؛ فلم نجد في النص جملا سردية تصف الأزاذ، بل وجدنا جملة تصف الرجل السوادي لأن لا وعي الشخصية اتجه لا شعوريا لتحقيق شهوته بالحصول على الطعام عن طريق احتياله على السوادي، فأبدل نقص المال لديه بوجود سوادي يستغفله.

ويمكن لنا أن نفسر الجمل السردية المتعددة في وصف أنواع الطعام المختلفة، فوجود رجل لا بد وأن تنطلي عليه الحيلة طمأن عيسى بن هشام، فذهب يتلذذ بوصف أنواع الطعام لنستلذ متعة وصفه السردي. فوصف الشواء بقوله: " أتينا شَوَّاء يتقاطر شِواؤه عرقا. وتتسايل جُوذَاباته مرقا" ([10])، ثم قال: " زن له من تلك الحلواء. واختر له من تلك الأطباق. وانضد عليها من أوراق الرُّقَاق. ورش عليه شيئا من ماء السماق... فانحنى الشواء بساطوره. على زبدة تنوره. فجعلها كالكحل سحقا. وكالطحن دقا. " ([11])؛ فما تقاطُر الشِواء عرقا إلا لأن اللحم سمين دسم، وكان هذا العرق يتساقط على الخبز (الجوذابات) الذي يخبز في التنور فيغني عن الأدم. ثم انظر إلى الرقاق، وهو خبز رقيق متناه في الرقة إلى حد يشبه الورق، والرقاق لا بد له من الزبدة حتى يطرى فيهنأ أكله مع الشواء، وأما ماء السماق فإنه يعطيه لونا وحموضة. وقد وصفه عيسى بن هشام بقوله: ( وانضد ) أي أنه ينظمها تنظيما مما يدل على ذوقهم، ومستواهم الحضاري.

ونلاحظ في النص السابق دقة عمل الشوّاء الذي يجوّد صناعة أكله، ويتخير طرق تقديمه لزبائنه حتى يزداد إقبالهم على شوائه. وانظر إلى عيسى بن هشام الذي يتخير طعامه، فهو يتخير الشِواء الدسم، ويتخير الأطباق، ويحدد شكل تقديم الرقاق من تنظيمه ورش السماق عليه.

وبعد أن ينتهي الاثنان أكلهما يتخير عيسى بن هشام صاحب حلوى، ويقول له: " زن لأبي زيد من اللُّوزِينَج رطلين فهو أجرى في الحلوق. وأمضى في العروق. وليكن ليلي العمر. يومي النشر. رقيق القشر. كثيف الحشو. لؤلؤي الدهن. كوكبي اللون. يذوب كالصمغ قبل المضغ. " ([12]) . فالمراد من هذه الجمل هو وزن رطلين من اللوزينج، ولكن هذا الطلب السردي مشوب بالوصف، إذ يتكون هذا النص من ثلاثة أقسام سردية: القسم الأول، يطلب فيه عيسى بن هشام وزن اللوزينج. والقسم الثاني، يذكر فيه وصف اللوزينج بشكل عام، وهو سهولة أكله، وسرعة هضمه. والقسم الثالث، يصف فيه اللوزينج وصفا دقيقا، ويمثل هذا القسم تخير عيسى بن هشام لجودة الحلوى؛ فهو يريد اللوزينج ليلي الصنع وتمّ نشره بالنهار، فيكون قد نضج وسرت الحلاوة في أجزائه. ويريد قشرته الخارجية رقيقة حتى يسهل تناوله مع كثافة حشوه. وكان اللوزينج يسقى بدهن اللوز فإذا كان صافيا أشبه اللؤلؤ في لونه. وأما قوله: ( يذوب قبل المضغ ) فهو بيان لدرجة النضج التي يريدها.

ومثل هذه الجمل تصور لنا حال العمل في السوق آنذاك، إذ اشتهر لديهم وجود محلات بيع الطعام بأنواعه المختلفة. وقول عيسى بن هشام : ( السوق أقرب. وطعامه أطيب ) دلالة على جودة أصناف الطعام الموجودة في السوق، ودلالة أبعد على إتقان الباعة لصناعتهم. ويتمثل ذلك من خلال وصف عمل الشوّاء عندما انحنى بالساطور على الزبدة فسحقها، ومن خلال تقديمه الشِواء مع خبز الرقاق في الأطباق. وأما وصف اللوزينج فهو يمثل مدى إتقان صنع هذا النوع من الحلوى، الأمر الذي يدل على إبداع الصانع. وعلمنا ـ أيضا ـ بوجود سقاة يبيعون الماء المشعشع بالثلج ويبدو من وصف عيسى بن هشام عند ذهابه لإحضار سقاء أن هؤلاء الباعة متجولون، ولذلك ذهب لاحضار واحد منهم. وأما جلوس عيسى بن هشام والسوادي لتناول الطعام فيدل أن الباعة الذين يبيعون الطعام كانوا يوفرون أماكن مخصصة لزبائنهم حتى يأكلوا براحة.

إذن، فقد أبرز صراع الشخصيتين صراعا ما بين أهل القرية في صورة الرجل السوادي، وأهل المدينة الذين مثلهم الكاتب في شخصية عيسى بن هشام. وهنا ـ على خلاف العادة ـ فإن بطل المقامة هو راويها. وقد يتعجب البعض لمَ لم يظهر أبو الفتح الإسكندري في هذه المقامة ؟ وقد نؤول ذلك أن الكاتب ـ فيما أرى ـ أراد صراعا بين شخصين عاديين أحدهما من المدينة بما يحمله من دهاء وذكاء اكتسبهما من خلال حياته بها، وآخر من القرية بما يمثله من سذاجة وطيبة قلب حتى صدق كل ما قيل له. فلم يلجأ الكاتب إلى بطله لأنه رجل لا يقهر ـ وفق صورته في المقامات ـ ، ولكن الكاتب وقف إلى جانب عيسى بن هشام الرجل المديني، وجعل النصر له؛ فنستدل من ذلك على موقف الكاتب الذي ينتقد أهل القرى، ونجده إبّان ذلك ينتقد بصورة خفية مكر أهل المدينة، واحتيالهم الذي طال شخصا بسيطا.

[1] انظر: الهمذاني، المقامة البغدادية، ص 71ـ 74
[2] انظر: سليمان، خالد (1991): نظرية المفارقة، مجلة أبحاث اليرموك، م 6، ع2، جامعة اليرموك، إربد، ص 57.
[3] انظر: سليمان، خالد (1999): المفارقة والأدب، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ص 15.
[4] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص73
[5] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص74
[6] انظر: ميويك، د.سي (1987): المفارقة وصفاتها (ضمن موسوعة المصطلح النقدي، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، ط2، دار المأمون للنشر والتوزيع ، بغداد، ص 27.
[7] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص73
[8] المصدر نفسه، ص71
[9] المصدر نفسه، ص74
[10] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص72. الجوذابة: خبز تخبزه في تنور ويتساقط عليه عرق اللحم.
[11] المصدر نفسه، ص ص72 – 73. الرقاق: خبز رقيق معروف متناه في الرقة.
[12] الهمذاني، المقامة البغدادية، ص73. اللوزينج: حلوى تصنع من نوع من الخبز ويسقى بدهن اللوز ويحشى بالجوز واللوز.