Tuesday, August 22, 2006

وظيفة الزمان والمكان والشخوص في إقامة أحداث الرسالة البغدادية

وظيفة الزمان والمكان والشخوص في إقامة أحداث الرسالة البغدادية.
يكشف النص الحكائي في الرسالة البغدادية عن تكامل عناصر القصة فيها، من زمان، ومكان، وشخوص، وأحداث، وعقدة، وحل([1]). إلا أن البحث في العناصر كلها ليس غايتنا؛ ولكن غايتنا عدد من العناصر القصصية التي تحتوي على ثنائيات ضدية تشكل فضاءات قصصية متعددة تبعا لتطور أحداث الحكاية. وإذا أردنا تفصيل النظر في هذه الثنائيات لا مندوحة لنا من الوقوف على المخطط التالي ليكون وسيلة لسبر جوانب معتمة من الحكاية.
الزمان:
يوم وليلة
(محدد)
المكان:
البيت
(ضيق)
الشخوص
(معدودون)
الأحداث:
متتالية
أبو المطهر الأزدي
فضـاء الحكـايــة
السارد الثاني
(سارد ضمني)

الشخصية الرئيسة:
أبو القاسم البغدادي
(محور الحكاية)
الزمان:
غير محدد
(انتقال بين زمن النص والزمن الحقيقي)
المكان:
مفتوح
(بغداد بأماكنها الواسعة)
الشخوص:
متعددون
( تبعا لكل حكاية)
الأحداث:
متشظية بسبب سكره فنكاد لا نجد رابطا بين الحكايات المسرودة
اتفاق
السارد الأول
(سارد ابتدائي)
وحتى نصل إلى تفصيل الزمان والمكان والشخوص في الحكاية سنقف على أحداثها لنربط بينها وبين العناصر القصصية الثلاثة آنفة الذكر.

ـ تلخيص الأحداث:

تتلخص الأحداث براوية أبي المطهر الأزدي حكاية عن رجل بغدادي " تتفق منه ألفاظ مستحسنة ومستخشنة، وعبارات لأهل بلده مستفصحة ومستفضحة. " ([2])، فيأوي إلى بيت أحد الأكابر يمضي فيه يوما واحدا ـ من أوله إلى أخره ـ وليلة. فيقضي يومه في لهو ومجون وشرب للخمر، وهو تارة يسرد قصة وتارة أخرى ينشد شعرا، ولما فعل الخمر فعله في عقله بدأت تصدر أفعال بذيئة منه إلى أن غطّ في نومه ثم استيقظ صباحا يستغفر الله ويتوب إليه.


ـ الزمـان:

يحدد أبو المطهر الأزدي ( الراوي ) الإطار الزمني الذي وقعت به هذه الحكاية وهو يوم وليلة، وهذا في قوله: " هذه حكاية مقدرة على أحوال يوم واحد، من أوله إلى آخره، وليلة كذلك. " ([3])؛ وما هذا الزمن إلا زمن الحكاية الواقعي الذي استغرق يوما وليلة، وهو زمن محدد إذا ما قيس بزمن النص. ذلك أن الزمن الذي استغرق لسرد هذه الحكاية هو أكثر من يوم وليلة إذ إن أبا القاسم البغدادي يصبح راويا ضمنيا لحكايات يسردها؛ فيتداخل تزامن رواية أبي المطر الأزدي لحكاية أبي القاسم البغدادي مع تزامن رواية أبي القاسم البغدادي لحكاياته المتعددة. وبذلك فإن زمن رواية حكايات أبي القاسم يتضمن زمن رواية أبي المطهر للحكاية.
ولكن، إذا تم فصل الزمنين فإننا سنغدو أمام ثنائية زمنية ( الزمن المحدد / الزمن غير المحدد ) : الزمان المحدد عندما يسرد أبو المطهر الأزدي حكاية أبي القاسم في يوم وليلة، وهنا نفصل بين زمن الحكاية الحقيقي وزمن السرد في النص الذي يعد أطول من هذه المدة، وذلك لقول أبي المطهر الأزدي نفسه: " فمن نشط لسماعها( الحكاية) ، ولم يعد تطويل فصولها وفضولها كلفة على قلبه.... تكلفت له من البسط جهده المتعب علي " ([4])؛ إذن، فإن الراوي يميز بين زمنين: زمن وقوع الحكاية واقعا، وزمن سردها الذي استغرق صفحات متعددة من فصول وفضول. ليصبح الزمن المحدد زمنا متناقضا في طبيعته إذ يحمل تحديدا زمنيا واقعيا وتطويلا نصيا غير واقعي ـ إذا اعتبرنا أن الحكاية صورة تشابه الواقع ـ .

وإذا انتقلنا إلى بنية الزمن غير المحدد نجد أن هذا الزمن متلازم مع سرد أبي القاسم للحكايات؛ فعندما يسرد الحكاية في المجلس يكون سرده سردا سابقا لما وقع في الزمن الماضي، فينقل لنا صورة الحكاية في جمل مبتسرة ـ غالبا ـ، وهي أقصر من الزمن الواقعي لحدوث الحكاية؛ وذلك يفسر تعدد الحكايات التي سردها أبو القاسم في يوم وليلة، ويفسر أيضا طول زمن السرد الذي وقع في الزمن المحدد.

ونستطيع بكلام مختصر أن نقول: إن راوي الحكاية ( أبا المطهر الأزدي) ينقل حكاية واقعية حصلت في زمن محدد لشخصية ( أبي القاسم البغدادي )، فتسرد حكايات حصلت في الزمن الماضي. ونقول: إن الحكاية التي ينقلها أبو المطهر زمن سردها النصي أطول من زمنها الحقيقي، أما الحكايات التي يسردها أبو القاسم فزمنها النصي أقصر ـ غالبا ـ من زمنها الحقيقي، ومن هنا ظهر في النص ثنائية الأزمنة الضدية، والتي كان لها دور في التفاعل مع المكان والشخصيات.

ـ المكــان:

وفيما يتعلق بالمكان؛ فإن المكان ـ أيضا ـ يتشكل من خلال ثنائية ( المكان المغلق / المكان المفتوح )، ولا يمكن لنا أن نفصل بين ثنائية المكان وثنائية الزمان. ذلك أن للزمان أثرا في تشكيل المكان؛ فعندما يروي أبو المطهر حكايته فهو يرويها وقد حدثت في مكان مغلق ( البيت )، ويتزامن وجود المكان المغلق مع فضاء زمني محدد ( يوم وليلة ). ويمكن لنا أن نربط بين تحديد الزمان وثبات المكان لأن المدة الزمنية قصيرة فيتوافق أن يكون المكان فيها ثابتا، ولا يتناقض.

ولكن ضيق المكان يتناقض مع سلوك الشخصيات، فلا يعني لنا أن ضيق المكان ينعكس سلبا على الشخصيات، بل على النقيض تماما؛ فإن شخصيات الحكاية يبدو عليها السعادة التي انعكست من خلال تصرفاتها، فهي في لهو ومجون وسرد للحكايات وإنشاد للأشعار وغناء وطرب.

وتتشكل بنية المكان المفتوح إبان حديث أبي القاسم البغدادي؛ فهو يصف بيوت بغداد وأسواقها ومحالها وجوانبها، وهذا الوصف يتشكل من خلال سرد أبي القاسم للحكايات في بؤرة زمنية تبعد آنا وتقترب آنا في سعة من الزمان الماضي. لذلك يتوافق انفتاح المكان وتعدد صوره في حديث أبي القاسم لسعة الزمان الماضي الذي يقبل وقفات مكانية متعددة في ضوء الامتداد الزمني.

ومثال ذلك حديث أبي القاسم عن جارية اسمها حبابة وقصتها أنها كانت تنوح " في الكرخ، وظلت واحدة، لا أخت لها ولا نظيرة، آنس الله المجلس والحاضرين، وأعاذهم من كل سوء، والناس تهالكوا عليها وعلى نوحها، بالعراق، وكان قدم بغداد خراساني، من أهل شاش، فاشتراها بثلاثين ألف درهم عزّيّة، وخرج بها إلى المشرق، وقيل، إنها لم تعش هناك إلا دون سنة، لكمد لحقها، وهوى لها ببغداد ماتت منه. " ([5])؛ فيتشكل النص وفق ثنائيات الزمان وثنائيات المكان؛ فهو يتحدث عن حبابة الجارية وحديثه واقع في الزمن الماضي إلا أن هذا الزمن متصل بالحاضر فهو يحدّث المجلس ويسرد عليهم القصة، فلا يستطيع إلا أن يكون مرتبطا بهم وذلك عند قوله: ( آنس الله المجلس والحاضرين، وأعاذهم من كل سوء) .

ثم ينتقل بعد ذلك إلى الزمن الماضي ليعود إلى حبابة، وبما أن الزمن الماضي زمن غير محدد فإن ذلك يؤدي إلى انفتاح في المكان؛ فنجدها تنوح في الكرخ وأهل العراق وبغداد يتهالكون عليها، ثم تُشترى وتخرج إلى المشرق؛ فنحن أمام أمكنة مفتوحة متعددة الأمر الذي أدى إلى تنوع الحركة في النص.

وإذا قارنا هذا المكان المفتوح بالمكان المغلق الذي يتشكل في الزمن الحاضر، نجد وصفه مناقضا للمكان المفتوح، ذلك أن الجالسين مقيدون بمساحة مكانية محددة تمنع حركتهم لذلك اكتفى القوم بالجلوس، وتناسب مع الجلوس سرد الحكايا وإنشاد الشعر وسماع المغنيات ومعاقرة الخمر، كل هذه الأحداث والمكان ثابت مغلق.

وبعد أن ينهي أبو القاسم حكايته عن حبابة يستكمل حديثه مباشرة بسرد حكاية عن أختها صبابة بقوله: " وأنا رأيت لها أختا يقال لها صبابة، وكانت في الحسن والجمال فوقها... " ([6])؛ فقوله: ( أنا رأيت ) سابقة سردية يرجعنا فيها إلى الزمن الماضي، ولكن هذا الزمن الماضي يختلف عن الزمن الذي ذكر فيه حكاية حبابة، لأن الواضح في النص أن الجمل السردية التي يصف بها حبابة تقع في زمن ماض أبعد من الزمن الذي يتحدث به عن صبابة ولذلك قلنا: إن الوقفات المكانية التي يستخدمها أبو القاسم لها سعة من الزمان الماضي حيث يبعد في الزمن الماضي تارة، ويقترب تارة أخرى.

والزمان والمكان لا يمكن أن ينفصلا عن شخصيات الحكاية، إذ لا بد للشخصية من زمن خاص يحكم وجودها في المكان، ولا بد من الوقوف على شخصيات الحكاية للبحث في أثرها وعلاقتها مع الزمان والمكان.


ـ الشخصيــات:

تتعدد الشخصيات في الرسالة البغدادية إلا أنه ينبغي لنا أن نفرق بين شخوص الحكاية التي يرويها أبو المطهر الأزدي، وشخوص الحكايات التي يرويها أبو القاسم البغدادي. فالحكاية التي يرويها أبو المطهر الأزدي ( حكاية أبي القاسم البغدادي ) تحتوي على عدد محدد من الشخصيات؛ فأبو القاسم هو الشخصية الرئيسة في الحكاية ويعد بطلها، ومحور أحداث الحكاية ترتكز على أقواله وسلوكه في المجلس، ويدلنا على ذلك المساحة النصية التي استغرقها حديثه، إذ إن اللغة السائدة في الرسالة البغدادية هي لغة أبي القاسم، والمساحة النصية المتبقية يستغرقها راوي الرسالة ( أبو المطهر ) في الحديث عن أبي القاسم أو بيان حركاته وتصرفاته وأثر الخمر في عقله، أو يوظف إحدى الشخصيات الثانوية ليخاطب أبا القاسم؛ فيوجه الأسئلة إليه ليكون سؤاله تمهيدا لمواضيع يطرقها أبو القاسم.

والشخصيات الثانوية في الحكاية التي يرويها أبو المطهر الأزدي تكاد تكون غير ذات أهمية([7])، وإنما وجودها في الحكاية إبراز لدور البطل ( أبي القاسم) عن طريق تعامله مع القوم الحاضرين ومع صاحب الدار. ولا يظهر في النص تحديدا لعدد الحاضرين أو أسمائهم، وذلك أن أبا المطهر كلما تحدث عن شخصية ثانوية بدأ حديثه بـ : ( فيقال ) أو ( فيقول بعضهم ) دون تحديد اسم الشخصية، أو إن أبا القاسم نفسه يخاطب الشخصية بقوله: " يا سيدنا، وهذا الآخر، أيش هو؟"([8]) و " ذا الآخر من هو ؟ " ([9]) و " ذا من هو بالله ؟ " ([10]) و " أنت أيش عليك من الناس ؟ " ([11]) و " يا سادة، وهذا أيضا أيش هو ؟ " ([12]) . وعند احتساب عدد الشخوص الذين خاطبهم أبو القاسم يكون عددهم أحد عشر شخصا وغلامين. ثم يكون الشخص الثاني عشر صاحب الدار الذي قال لأبي القاسم: " يا أبا القاسم، ما بقي في المجلس أحد لم تذكره غيري. " ([13])

وتبرز أنا الراوي ( أبو المطهر ) في الرسالة كاملة من خلال الحوار الذي ينطِقه شخوصه، فعندما يجعل الكلام لأبي القاسم يبدأ حواره بـ ( يقول ) ، وعندما يجعل الكلام لأحد الشخصيات يبدأ حواره بـ ( فيقال ) أو ( يقول بعضهم) أو ( يقولون )، لذلك فإن أكثر الألفاظ السردية تكرارا في الرسالة البغدادية ـ فيما بحثت ـ لفظة ( يقول ) دلالة إسناد السرد لأبي القاسم.

وبما أن أبا القاسم هو موضوع الرسالة البغدادية ، فإن جلّ الأحداث في الحكاية مرتبطة به، فهو الذي يخاطب الجالسين ويحدثهم، وهو الذي يقدم الملاحظات المتعددة حول مدينة بغداد وقاطنيها، وهو الذي ينشد الشعر في المجلس ويسيء إلى الجالسين ويهجوهم نثرا وشعرا، وهو الذي يفرط في شرب الخمر؛ فتفسد عقله وتشوه سلوكه ولفظه، وتظهر طربه وتراقصه ومجونه.
ودور أبي القاسم في هذا المجلس هو دور المهرّج الذي يسلي الحضور، ولكنه لا يتقاضى أجرا، وإنما أجره هو ذلك الشعور بالسعادة الذي يشعر به جراء نفجه على الحضور، وكأنه مصاب بعقدة نقص يعوضها من خلال رغبته في الظهور واهتمام الآخرين به، ولذلك كثرت أحاديثه في النص وكثرت طرفه، ومن ذلك حديثه عن جارية يمر بها أثناء قولها: " واطرباه، واحرباه، واشوقاه، والتفتت فرأتني، فقالت: ليس إلى مثلك " ([14]) ، وقوله لجارية أخرى: " ليتك أمسيت تحتي، فقالت: نعم يا سيدي، نعم، مع ثلاثة أخر، أي إذا كنت على الجنازة. " ([15])

ونرجح أن الشخوص في الرسالة البغدادية هم شخوص وهميون باستثناء الشخوص في الحكايات التي سردها أبو القاسم البغدادي. ومذهب ظننا أن الشخوص هم شخوص وهميون قول مؤلفها في المقدمة: " قال الشيخ الأديب أبو المطهر.... " و " أما الذي اختاره من الأدب. فالخطاب البدوي، والشعر القديم العربي، ثم الشوارد التي افترعتها خواطر المتأخرين من أعلام الأدباء، والنوادر التي اخترعتها قرائح المحدثين من أعيان الشعراء، هذا الذي أحصله من أدب غيري وأقتنيته، وأتحلى به وأدعيه وأرويه، من ملح ما تنفسوا به، وتنافسوا فيه، ويصدق شاهدي عليه، أشعار لنفسي دونتها، ورسايل سيرتها، ومقامات حضرتها."([16])؛ فالسارد في هذا النص ليس بأبي المطهر ولا بأبي القاسم بل هو المؤلف الحقيقي للرسالة البغدادية ( التوحيدي )، فابتدع شخصية خيالية لأبي المطهر الأزدي الذي ـ بدوره ـ ابتدع شخصية الحكاية الرئيسة أبا القاسم البغدادي، لكن سرعان ما نشعر أن شخصية المؤلف قد اندمجت مع شخصية الراوي أبي المطهر ذلك أن أبا المطهر يحرك أبا القاسم وفق رغبة المؤلف لقوله: ( هذا الذي أحصله من أدب غيري وأقتنيته، وأتحلى به وأدعيه وأرويه ) .

وعندما يقول التوحيدي: ( قال الشيخ الأديب.... )؛ فإن ذلك يعد سردا من الدرجة الأولى ثم عندما يحدثنا أبو المطهر عن حكاية أبي القاسم وما يدور في المجلس؛ فإن ذلك يعد سردا من الدرجة الثانية. وعندما يسرد أبو القاسم الحكايات المتعددة فإن كل حكاية منها تعد سردا من الدرجة الثالثة، وهذه الدرجة من السرد تعيدنا إلى شخوص حكايات أبي القاسم، فهي شخصيات متعددة وذلك لكثرة الحكايات المتتابعة التي يسردها أبو القاسم. ونرجّح أن هذه الشخوص المتشكلة في السرد من الدرجة الثالثة هي شخوص واقعية أو متصلة بالواقع، وهي المساحة النصية الأكبر في الرسالة البغدادية مما يشير إلى أهمية هذه الحكايات وشخوصها. وما ارتباط هذه الشخوص في الواقع إلا لأنها متصلة بالمكان، ونجد أثر المكان واضحا عندما يقول أبو القاسم : " والله، ما أنسى بلدتي وتربتي، ولا أرضى ببغداد جنة الخلد " ([17])، ويدلّل على رأيه هذا عندما يسرد أسماء سواد بغداد وضياعها فيقول:" هل تسمع في سواد أصبهان ما يشبه البردان، والراذان، والنهروان، وحلوان، وصريفين، وأوانا، وعكبرا، وكلواذا، وقطربل، وبادوريا، والأنبار..."([18])، ويقول: " هل أسمع ـ بالله عليكم ـ في محال أصفهان ما يشبه، إن شئت من شرقي بغداد، الرصافة، باب الطاق، سوق يحيى، شارع البردان، درب الريحان، درجة يعقوب، ... وإن شيت من غربيها، النجمي، الرقة، نهر عيسى، نهر طابق، ... وإن شيت من أنهارها، نهر ماري، ونهر الملك، ونهر عيسى، ونهر موسى، ... وإن شيت من مساجدها، جامع المنصور، جامع الرصافة، جامع القطيعة، جامع براثا، جامع القصر، وإن شيت من مشاهدها المعروفة، مشهد كربلاء، ومشهد الكوفة، ومقابر قريش، ... " ([19])
وذكر أبي القاسم أسماء هذه الأماكن من بغداد يشير إلى إنتماء سرده إلى الواقع، وساعده على الاستمرار في هذا النمط من السرد الشخوص المستمعون في المجلس إذ كانوا يطلبون سماع الحكايات، ومن الأمثلة على ذلك عندما تحدث أبو القاسم عن الجواري، فقال له أحد الجالسين: " يا أبا القاسم، لو تفضلت ببعض تلك الحكايات، لكنت قد أتممت الأنس بأحاديثك. فيقول: مولاي، تحب المساخرة ؟ تريد من تضحك عليه ؟ مسخرة دوست، لا يا سيدي، أطلب لنفسك غيري تضحك عليه. فيقول ذاك: الله، الله، يا أبا القاسم، إن أنعمت شكرناك، وكنت السيد الموقر، غير مأمور، وإن أبيت لم نطالبك بما يشاكل هذا، وكنت المعظم الموقر عندنا." ([20]) فيسرد أبو القاسم الحكايات عليهم، مفصلا أسماء الجواري وأماكن وجودهن في بغداد مما يدل على واقعية شخوص هذه الحكايات.


ـ الأحداث:

وعند النظر إلى كيفية تفاعل الشخوص في المكان مع تعدد الأزمنة في الحكاية، يظهر لنا أثر هذه العناصر في تشكيل أحداث الرسالة البغدادية. وهنا ينبغي لنا أن نمعن النظر في سرد الحكاية من الدرجة الثانية عندما روى أبو المطهر الأزدي حكاية أبي القاسم وهو في دار أحد الأكابر. وهنا نجد تسلسلا منطقيا في الأحداث، فأبو القاسم يدخل الدار بوقار وهدوء، ويرسم لنفسه صورة الإنسان الجليل، ثم عندما يفتح الجالسون له باب اللهو فإنه يصبح سيدهم، فيلهو ويطرب ويشرب الخمر إلى أن ينام، ثم يستيقظ صباحا ويذهب في سبيل أمره.

وعند النظر إلى الدرجة الثالثة من السرد، نجد أن أحداث هذا القسم متتابعة في البداية، ولكن سرعان ما تصبح الأحداث متشظية وغير متسلسلة ولا رابط منطقي بينها. وقد يكون هذا التشظي المفاجئ في الأحداث مبررا، ذلك أن راوي الحكايات هو أبو القاسم البغدادي، فعندما روى حكاياته أول الرسالة كان في درجة عالية من الصحو، ولذلك وصف بغداد ومدنها وقراها وأنهارها ومشاهدها، ثم فصل الحديث عن اللباس والبيوت وفرش المجالس والعطور ومجالس الطعام وأنواع الطعام والخمور، وعندما سمع الغناء تكلم عن الجواري والمغنيات وحال من طَرِب؛ فجاءت الأمور التي تحدث عنها متسلسلة منطقية. لكن سُكر أبي القاسم أفقده إدراكه ومنطق كلامه؛ فتكلم عن الطعام ثم فاضل بين بغداد وأصفهان، ثم تحدث عن الملاحة والبحر، ثم تحدث عن داره ومكان إقامته، ثم بدأ يكلم من حوله من الجالسين بكلام متناقض، ولما ازداد سكر أبي القاسم بدأت شتائمه بالازدياد ورعونته بالظهور، ولذلك فإن عدم انتظام تسلسل كلامه مرتبط بحالته الذهنية التي غشاها الخمر. وهنا لا بد أن نمدح المؤلف ( التوحيدي ) الذي نصفه بالكاتب الواعي لشخوص حكايته؛ فأبو المطهر الذي ينقل حكاية أبي القاسم رجل متزن يظهر اتزانه في طريقة كلامه وتصويره حال أبي القاسم في صحوه وسكره. وأبو القاسم رجل بين حالين: حال صحو وحال سكر، فصور لنا حاله من خلال النقلة السردية التي شكلها المؤلف بين أول الحكاية ( الرجل الورع التقي )، وآخرها (الرجل الماجن السكير) .

وقد يهيأ لقارئ حكاية أبي القاسم البغدادي أن أحداثها على طول المرحلة السردية متناقضة ، وهذا أمر ظاهري لم يعمق قارئه النظر وراء هذا التناقض ويحاول سبر مضانه؛ فأبو القاسم البغدادي يبدأ الحكاية في هيئة من الورع والتقوى تومئ للشخص أنه في صدد حكاية لشخص مغال في التزمت والتشدد إلا أن المفاجأة تحدث عندما يسقط هذا الشيخ الورع من منزلته إلى منزلة الماجن اللاهي ، وهي صورة مناقضة ومضادة للصورة السابقة . فجلّ أحداث الحكاية تصف صورة الشخص الماجن إلا أن نهايتها تكون بنومه، واستيقاظه على صورة الورِع المتزمت ثانية، وهو حدث مناقض ـ أيضا ـ لما تم من أحداث سابقة .

ولكن بعد أن يتمعن الشخص في هذه التناقضات ويقف موقف مؤلف الحكاية، ينجم له أنه لا ينبغي للمؤلف أن يضع هذه الحكاية لمجرد اللهو والمجون والتلفظ بألفاظ الفحش، وإنما يجعل المؤلف من أبي القاسم ( البطل ) حالة تمثل العصر ليوجه الكاتب سخريته اللاذعة إلى حالة التردي التي وصل عليها المجتمع العباسي؛ فهو مجتمع متناقض في تصرفاته كتناقض تصرفات أبي القاسم إذ تجد الزاهد الورع والماجن، وتجد الشيخ المنقطع في عبادته والسكير.

فأبرز الكاتب أبا القاسم البغدادي بوصفه أديبا في صورة لا يرضاها الإنسان السوي، وكأنه يطلب من الناس أن يرفضوا هذه الحالة التي وصلوا إليها من اجتماع المتناقضات في عصرهم، وهذا الطلب إنما يتهيأ في الحكاية من خلال استيقاظ أبي القاسم، فقد استيقظ في الفجر وهذا دلالة على البداية جديدة، واختار الكاتب التوبة لتمثل نهاية الحكاية؛ فتصور حال الأديب الذي يبرأ من مجتمعه، وتتمثل هذه البراءة من المجتمع عندما ضحك الرجل على أبي القاسم وهو يقرأ القرآن والأوراد بعد ما بدر منه في ليلته السابقة إلا أن أبا القاسم يقرعه، وهذا التقريع هو لسان الكاتب الذي يريد أن تصبح حالة التناقض الفردية التي يعيشها الأديب حالة استقرار تنعكس على المجتمع بأسره .

[1] وهي من العناصر التي يشترط وجودها في الحكاية، انظر: العيد، يمنى (1990): تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، ط1، دار الفارابي، بيروت، ص ص 170 – 173.
[2] التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص42
[3] المصدر نفسه، ص44
[4] التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص44
[5] التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص258
[6] المصدر نفسه، ص258
[7] انظر: ابن تميم، علي: السرد والظاهرة الدرامية، ط1، (2003)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص ص 97 - 98
[8] التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص62
[9] المصدر نفسه، ص 62
[10] المصدر نفسه، ص 70
[11] المصدر نفسه، ص 72
[12] المصدر نفسه، ص 76
[13] المصدر نفسه، ص 80
[14] التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص240
[15] المصدر نفسه، ص241
[16] المصدر نفسه، ص42
[17] التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص90
[18] انظر: المصدر نفسه، ص 91 – 93. البردان: قرية فوق بغداد. الراذان: كورتان بسواد بغداد. النهروان: كورة أسفل بغداد. حلوان: آخر حدود سواد العراق من الشرق. صريفين: قرية فوق آوانا في سواد العراق وقرب عكبرا على ضفة دجيل. كلواذا: تقع غربي نهر بوق في الجانب الشرقي من بغداد. قطربل/ بادوريا:ما كان شرقي الصراة فهو بادوريا وما كان غربيها فهو قطربل . الأنبار: مدينة على الفرات.
[19] انظر: المصدر نفسه، ص 94 – 108. الرصافة: ( منطقة المقبرة الملكية الآن ) محلة كبيرة بالجانب الشرقي من بغداد. باب الطاق: هي الآن محلة الصرافية . سوق يحيى: تقع بين الرصافة ودار المملكة ( هي الآن مدينة الطب بالعلوازية ) . شارع البردان: شارع يخرج من طريق خراسان الممتد من باب الطاق ويمر بالشماسية وينتهي بباب البردان. درب الريحان: محلة بباب الشماسية ( الصليخ الآن ) . درجة يعقوب: شارع يقع بقرب الحريم الطاهري بالجانب الغربي من بغداد وسمي بدرب يعقوب لأن دار يعقوب بن المهدي كانت فيه . النجمي: بستان ( هو الآن محلة علاوي الحلة وجزء من باب السيف ) . الرقة: تقع على النهر . نهر عيسى: ينسب إلى عيسى بن علي عم المنصور، يمتد من الفرات ويخترق الكرخ ويصب في دجلة . نهر طابق: اشتق من نهر كرخاية ويسقي في طريقه محلة نهر طابق ومحلة دار القطن ثم يصب في دجلة في مصب نهر عيسى. نهر ماري: بين بغداد والنعمانية. نهر الملك: يأخذ من الفرات ويصب في دجلة عند المدائن في الجانب الغربي. نهر عيسى: يأخذ من الفرات وينتهي إلى دجلة عند قصر عيسى بن علي. جامع براثا: موضعها عند انفصال نهر كرخاية عن نهر الرفيل. مشهد كربلاء: الموضع الذي قتل فيه الحسين. مشهد الكوفة: يريد به قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. مقابر قريش: هي بين الحربية ومقبرة أحمد بن حنبل والحريم الطاهري.
[20]التوحيدي: الرسالة البغدادية، ص 229