Friday, August 18, 2006

صورة القدس في شعر أمل دنقل، وأمين شنار، ووليد سيف-

صورة القدس في شعر أمل دنقل-

تكاد صورة تفارقنا من الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل إذا استثنينا قصيدة ( في انتظار السيف) وقصيدة ( سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس). ولا مندوحة لنا ـ بدءا ـ من الوقوف على هاتين القصيدتين ننظر فيهما إلى موقف الشاعر الذي اتخذه لرسم صورة القدس.

(ـ التناقض الشكلي في قصيدة ( في انتظار السيف
يبدأ الشاعر قصيدته بقوله:
وردة في عروة السرة:
ماذا تلدين الآن؟
طفلا . . أم جريمة؟
أم تنوحين على بوابة القدس القديمة؟[1]

يضعنا الشاعر من بداية قصيدته أمام تساؤلات ظاهرها يوحي بعدم وجود رابط بينها؛ فلا رابط حقيقي بين الطفل والجريمة، ولكن هذه الولادة التي يتحدث عنها الشاعر هي ولادة التجدد وولادة العهد الجديد الذي سيكون على يدي هذا الطفل الذي يعد جريمة في حق العدو، وما يدل على هذا المعنى أنه ألحقها بالنواح على بوابة القدس القديمة؛ فإما يكون التحرر عن طريق ولادة الطفل الجديد، وإما البقاء على الهزيمة والاكتفاء بالنواح على ضياع القدس.

ولكن يبقى في الذهن انشغال حول هذا الطفل وهذه الولادة، ولذلك يقول:
تلدين الآن من يحبو . .
فلا تسنده الأيدي،
ومن يمشي . . فلا يرفع عينيه إلى الناس [2]

الذي يحبو هو الطفل وهو رمز لبداية التحرر وبداية التحدي للعدو، ولكن عندما يشتد هذا الطفل يصبح جريمة اقترفها العرب على أنفسهم، ولذلك يأبى أحد أن يسند هذا الطفل ويشد على ساعده. وعندما وجد هذا التناقض في المجتمع ـ الذي يحمل راية التجدد والتحرر، والذي يحاول إفساد محاولات هذا التحرر في الوقت نفسه ـ فإن هذه الدولة ( فلسطين ) قد أنجبت هؤلاء الفاسدين الذين يخشون رفع أعينهم من الذل. ومما يدلنا أن الشاعر قصد في هذه الأم فلسطين هو موقع الوردة من عروة السرة كما تقع فلسطين في وسط الدول العربية. وهنا ينتقل الشاعر إلى إيجاد نظرة شمولية للوطن لا يقصد منها المكان بحد ذاته وإنما يقصد تلك النظرة الدينية إلى المكان، ومن ثم هذا التعاطف الوطني للهزيمة التي كانت نتيجة لاستهتار بعض الأفراد الذين يقول عنهم:
هذا قدر المهزوم:
لا أرض . . ولا مال . .
دون أن يطرقه جاب . .
وجندي رأى زوجته الحسناء في البيت المقابل
انظري أمتك الأولى العظيمة
أصبحت: شرذمة من جثت القتلى،
وشحاذين يستجدون عطف السيف،
والمال الذي ينثره الغازي . .
فيهوي ما تبقى من رجال . . [3]

هذه هي نظرة أمل دنقل المتشائمة تجاه أبناء الوطن؛ فهي نظرة تشوبها استباحة للحرمات وذل للرجال أمام القوة والمال. لكن الشاعر يرفض أن تنتهي قصيدته على هذا النحو من الهزيمة وإلا فما هو دور ذلك الطفل الذي تحاول الأم ( فلسطين ) أن تلده، ولذلك هو يقول:
تشتكي الأضلاع يومين . .
ويعتاد على الصوت الجديد
يسكت المذياع يومين . .
ويعتاد على الصوت الجديد
وأنا منتظر . . جنب فراشك
جالس أرقب في حمى ارتعاشك
صرخة الطفل الذي يفتح عينيه . .
على مرأى الجنود! [4]

فاعتياد المرء على الذل هو أمر ممكن، وكذا اعتياده على الهوان وعلى كل متغير، إلا أن الشاعر في ظل هذه الفترة من الهبوط ينتظر أن يخرج منه ذلك الذي يستطيع أن يواجه الجنود ويقاومهم.

ـ الصورة الدينية في قصيدة ( سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس ) :

وحتى تكتمل صورة القدس والوطن عند أمل دنقل لا بد من نظرات في قصيدته ( سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس ). والقصيدة موحية من عنوانها، إذ إن الشاعر يعيدنا إلى قصة استلام عمر ـ رضي الله عنه ـ مفاتيح القدس في زمن القوة الإسلامية والفتوح. إلا أنه في هذا الزمن ـ الموسوم بالهزائم ـ يأبى أحد استلام هذه المفاتيح، ويأبى أن يتحمل عناء هذه المهمة. وما يميز العنوان هو اسم الشخص (سرحان ) الذي يدل على اسم عربي شاع استخدامه في مصر لتشير دلالة استخدامه إلى عدم الانشغال وعدم الاهتمام والغفلة عن كافة الأمور بما فيها غفلة هذا السرحان عن أمور وطنه وعن التجهز للحصول على مفاتيح القدس.

وعند النظر إلى بنية القصيدة نجد الشاعر قد قسمها إلى سبعة أقسام، عنون كل قسم منها بـ ( الإصحاح ) لتكون إشارة واضحة من الشاعر إلى التوراة وإلى قيامه بصنع كتابة مغايرة لما صنعه اليهود في التوراة؛ فالشاعر يلجأ إلى المرجعية الدينية الإسلامية لإبداع هذه الكتابة؛ ذلك أن نمط بناء القصائد في ديوان ( العهد الآت )* هو بعنونة القصائد باسم (سفر) معين مثل: سفر الخروج وسفر التكوين. . . ثم يجعل القصيدة مقسمة إلى عدة أقسام يحمل كل قسم اسم (إصحاح)؛ فيمزج ألفاظا من الإنجيل والتوراة ، ثم يتخذ المرجعية الدينية الإسلامية مصدرا لرسم صوره؛ وذلك ما صنعه في أول قصيدته ( سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس )، إذ يقول: ( الإصحاح الأول )
عائدون،
وأصغر أخوتهم (ذو العيون الحزينة)
يتقلب في الجب، !
أجمل أخوتهم . . لا يعود !
وعجوز هي القدس ( يشتعل الرأس شيبا )
تشم القميص . فتبيض أعينها بالبكاء ،
ولا تخلع الثوب حتى يجيء لها نبأ عن فتاها البعيد
أرض كنعان ـ إن لم تكن أنت فيها ـ مراع من الشوك!
يورثها الله من شاء من أمم،
فالذي يحرس الأرض ليس الصيارف،
إن الذي يحرس الأرض رب الجنود! [5]

الذي يُلحظ في النص السابق أن الشاعر صور القدس من خلال تشبيهها بموقف سيدنا يعقوب ـ عليه السلام ـ؛ فاتخذ الشاعر من سورة يوسف مرجعا لاستجلاب قصته في النص، فكما آذى أخوة يوسف يوسف وأباه كذلك يؤذي اليهود القدس مع اصطبار القدس على هذه المصيبة كاصطبار يعقوب ـ عليه السلام ـ.
وقد استغل أمل دنقل تقسيم القصيدة بأن جعل كل إصحاح موضوعا مستقلا عن سابقه، ولكن في النهاية هو يرسم ـ من خلال هذا التقسيم ـ القضايا المتشتتة المتعلقة بفلسطين والقدس؛ فيشير الشاعر إلى الأحداث السياسية التي وقعت بعمان، وما كان فيها من اضطهاد لبعض الفلسطينيين، وهو في قصيدته لا يصرح بذلك، وإنما يوحي بهذه الأحداث من خلال مجموع الأعمال التي كانت تقترف في حق البعض، وذلك قوله:
منظر جانبي لعمان عام البكاء
والحوائط مرشوشة ببقايا دم لعقته الكلاب
ونهود الصبايا مصابيح مطفأة . .
فوق أعمدة الكهرباء.
منظر جانبي لعمان؛
والحرس الملكي يفتش ثوب الخلفية
وهو يسر إلى " إيلياء "
وتغيب البيوت وراء الدخان
وتغيب عيون الضحايا وراء النجوم الصغيرة [6]

ويشير إلى التقاعس عن السعي إلى تحرير القدس في قوله:
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد
( ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد )
ليس من أجل أن يتفجر نفط الجزيرة
ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض . .
من حول مائدة مستديرة
ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء. [7]


القدس في شعر أمين شنّار:

يردد أمين شنار (القدس) بأبيات متفرقة في قصائده سواء كانت في مناسبة دينية أم للحديث عن قضية وطنية أم لذكر أحداث فلسطينية معينة؛ ففي قصيدته (إسراء..) فرض عليه موضوع القصيدة أن يذكر القدس بما تحمله من معان دينية في هذا الموضوع، فهو يقول:
حلقت فوق ربى البطحاء، فانبعـــثت خضراء يغمرها منك الشذى العطر
خلفت قومك في حضن الكرى، ومضى بك (البراق) وبيت المقدس الوطـر
والقدس تسأل: من هذا الذي سطعــت أنواره؟ أملاك ذا له خــــطر؟ [8]

ويفارق أمين شنار همّ المدينة الواحدة ومآسيها لتتماهى المآسي في القضية الفلسطينية لتصبح هي هم الشاعر وقضيته، ومن ذلك قول الشاعر:
آه فلسطين! والذكرى تعاودنـــا وأنت منا الهوى، والسمع، والبصر!
آه فلسطين! ما في الأرض منتجع إلا وردناه حتى ملنا البشــــر
آه فلسطين! قد ديست كرامتنــا حتام يظلمنا الباغي، ونصطبــر ؟!

وقد يتناول الشاعر موضوعات معينة يخصها في شعره، ومن ذلك حديثه عن النكبة بقوله:
قال الكبار: وكانت النكبة !
قالوا: وكم بطل قضى نحبه
قالوا: وإن لنا غدا أوبه!
هيا! أعد قواك للوثبة!
كاانوا . . . كمن وهب الأسى قلبه . .
كل يناشد ضارعا ربه! [9]

ويتخذ ـ أحيانا ـ من قضايا الفلسطينيين موضوعا لشعره، فهو يخاطب النازحين بقوله:
ها هو الشاطئ مهجور حزين
مثقل بالعار، مخضوب الجبين
بالجراحات، ينادي النازحين
صارخا تحت نعال الغاضبين!
أججوها شعلة الحقد الدفين
ثورة عارمة لا تستكين
وانفروا من كل صوب زاحفين! [10]
ويبرز جهد الشاعر في تشكيل صورة القدس في قصيدته ( بيت المقدس )، إذ يتخذ القدس موضوعا مفصلا في قصيدته، فكان البد أن نجعل هذه القصيدة في دراسة مستقلة لبروزها بين مجموع شعر أمين شنار ـ لا سيما وأن موضوع البحث هو صورة القدس ـ.

ـ لـذة الـقـراءة:

يقال إن مفتاح القصيدة عنوانها؛ فإذا قرأنا العنوان ( بيت المقدس ) نلحظ أن العنوان يشير إلى الأراضي المقدسة، وما وقع عليها من اضطهاد المحتل. فكل ما يدور في ثنايا القصيدة من انحرافات تعكس الصورة النفسية للشاعر، والتي تتمثل في اختياره لفظة ( بيت المقدس ) بدلا من ( القدس ) أو ( فلسطين )، وفي ذلك تحديد للدلالة الدينية التي يريد الشاعر تجسيدها في نصه.

وعندما نتتبع القصيدة نجدها تتشكل ضمن ثنائيتين حادتين: بنية الليل والصباح. إذ يجعل الشاعر تحت كل بنية عددا من البنى التي تمثل في صورتها النهائية نظرة الشاعر الوطنية والدينية تجاه الوطن؛ فتتشكل من خلال بنية الليل الصورة النهائية للمحتل ـ وفق منظور الشاعر ـ ، ولا يكون سبيل النجاة والتجديد إلا عن طريق بنية الصباح التي تمثل سبيل الكفاح والتحرر.

ووفقا للبينتين السابقتين يمكن قراءة القصيدة بمنحى دلالي مغاير لظاهر اللفظ، فتارة يستخدم الشاعر الاستعارة وتارة يستخدم التشخيص و تارة يستخدم الإيحاء ليشكل في النهاية تلك النظرة الجليلة تجاه المكان، والنظرة الضدية تجاه محتله.

يبدأ الشاعر القصيدة بقوله: ( الليل حلم مبصر ) [11] وفي ذلك جمع للأضداد في جملة واحدة ، فكيف يكون الليل حلما و كيف يكون مبصرا في الوقت نفسه. وهنا لا بد لنا من التعامل مع دلالات هذه الألفاظ فالليل هو وقت الظلام ، وغالبا ما يعكس الظلام الأغوار النفسية المعتمة للشاعر؛ فأمين شنار يجسد حالة الظلم والقهر من خلال ليله، فكما نجد المرقسيّ يعاني الكبد من ليله نجد شاعرنا قد اتخذ موقفا من الليل، إذ يرى أنه موجود ( في مقلة عمياء ) [12]، ومن غير الظالم الذي تعمى عينه فلا يعود يرى الحق؟!
لكن الشاعر لا يذكر ظلم هذا الليل ليقبل به، وإنما يجعله حلما مبصرا لما ستؤول إليه الأمور في المستقبل؛ فدلالة كلمة (حلم) تدل على آمال الشاعر وأمنياته، فهي مبصرة لتحققه من إمكانية هزيمته الليل ـ بما يمثله من قيمة ودلالة ـ الذي يقول عنه أيضا:
أماه . . يا أماه يشرق الصباح
من مقلة الظلام، من أصابع الكفاح
الليل حلم مبصر يراود النهار [13]
فالإيذان بانتهاء الليل يكون بموته وولادة نهار جديد؛ فيشكل الشاعر ثنائيتين ضديتين في البنية السطحية ( الليل / النهار ) لتولد ثنائيتين أخريين في البنية العميقة: الليل، بما يمثله من ظلم المحتل واستبداده. والنهار، بما يمثله من حرية تتشكل عن طريق الدفاع عن الوطن ( بيت المقدس ) والكفاح، لأنه يوحي ـ في النص السابق ـ بأن بذرة التغيير موجودة، و ستنبثق من مقلة الظلام ( المستبد ) لأن ما سيقع من ظلم على الناس سيشكل حافزا لديهم لتحدي هذا الظلم عن طريق الكفاح.

ونلاحظ التشخيص الذي يستخدمه الشاعر في الأسطر السابقة فهو يجعل للظلام مقلة كأنه إنسان، ويجعل لليل قدرة إنسانية لقوله: ( يراود )؛ فأسقط على الليل جانب حسي من الإنسان .

وعندما ننظر في القصيدة سطرها الثاني نجد الشاعر يقول: ( وقلبي شراع مبحر ، في لجة سوداء ) ؛ فذكر القلب ههنا ولكنه لم يقصد ذلك الجزء الكائن في الصدر، وإنما قصد ما لديه من عاطفة وشعور؛ فعاطفته غير مستقرة ومما يدل على ذلك أنها ( شراع مبحر ) أي أنه دائم الترحال غير مستقر في مكان ولذلك هو يقول : ( قلبي شراع مبحر ، لا ينتهي سراه ) [14].

ويقول عنه أيضا: ( قلبي شراع مبحر 000 تكسر المجداف تحت وطأة الرعود )؛ فقوله: تكسر المجداف، أي كأنه قارب تائه يتخبط به الموج، ولا يعلم مصيره؛ فهو يسير دون هدف، والذي كلفه هذا الأمر: ( وطأة الرعود )، فنستدل من ذكره ( وطأة ) أن الرعد ليس حقيقيا وكأنه يقول : وطأة ما وقع علينا من ظلم من ذلك المغتصب .

وهكذا، فإن النص تشكل عن طريق أسلوبين: الأول، استخدام الألفاظ عن طريق المجاز لغير المعنى الحقيقي الظاهر. والثاني، استخدام الألفاظ والجمل الموحية لتشكل المعنى من خلال ما تتركه من أثر نفسي يستقر في مخيلة القارئ.

ومن الأمثلة على استخدام الشاعر أسلوب الإيحاء قوله :
قلبي وليلى سائحان يعبران
أزقة مسنة ، تؤرخ الزمان
تقول ، كان ههنا 00 وكان 00 [15]
فقوله : ( قلبي وليلي سائحان يعبران ) يتنافى مع قوله: ( قلبي شراع مبحر )؛ فأبرز لنا عاطفة تجاه هذا المكان لكنه يعود ويحدثنا أن كل من يمر في هذه المنطقة من صديق وعدو لا خير يرتجى منه ولن يؤثر في المكان الذي يبقى خالدا بما يحمله عن تاريخ عريق ، وذلك قوله: ( فههنا الحياة لا تموت في الأشياء000) [16].

صورة القدس في شعر وليد سيف :

تتنوع الصور الدلالية للقدس في شعر وليد سيف لتتشكل في أبرز سبك لها في ديوان ( تغريبة بني فلسطين) الذي يستهل بقصيدة ( تغريبة زيد الياسن ) وأولها:
أنت إذن رأس الفتنة
أنت اللغم المزروع بنا
- أنت تهرّب شمس القدس..
وملح البارود ... إلى كلمات الموال البلدي [17]
الشاعر في قصائده يسعى دائماً ـ فيما أرى ـ إلى الثورة والنضال؛ فتتصارع في شعره ثلاث بنى تتمثل في المربع الدلالي التالي :


الثائر
الوطن
المحتل
علاقة حب وترابط
السعي إلى الثورة وفداء الوطن
السعي إلى المصالح الذاتية وتدمير المقاومة
علاقة رفض

علاقة استغلال
علاقة تناقض
محور الصراع







من هنا نستطيع أن نفسر قوله ( أنت رأس الفتنة ، وأنت اللغم المزروع بنا) لأن هذا الكلام موجه من المحتل إلى الثائر. وعند الحديث عن الوطن ( القدس) دائماً يقرنها بالإشراق (الشمس ) لأن حقيقتها ساطعة، وأظهر من أن يخفيها أي محتل .

ومما ينطبق على هذا المربع الدلالي - أيضاً - من الشعر قوله :
إن كنت ستغير يوماً من سيناء
ورأيت هناك نبتة ورد في الصحراء
تتطلع نحو الشمس وتحني جبهتها في كل مساء
نحو الشرق فقبلها عني
هذي الوردة يا ولدي .. تطلع من ولدي !!
هذي الوردة تطلع من كبدي!!
وبقيت ليالي أركض في البرية
وكلاب البوليس تطاردني
وتحيرت..
ترى تلك كلاب البوليس الإسرائيلي
أم تلك كلاب البوليس العربي!! [18]

مفهوم الوطن عند الشاعر متسع؛ فهو لا يقصد في الوطن بلدته أو يهدف إلى إبراز مدينةٍ بعينها دون سواها ، ولكن الشاعر تشغله قضية الوطن الكبرى (قضية فلسطين) ، فعندما أشار إلى عبور سيناء أوحى لنا بالعبور إلى فلسطين وهذا العبور أنى له أن يكون إلا بعبور ثائرٍ أو عبور جنديٍ مقاتل. ثم يبدأ من السطر الثاني إلى السطر السادس بالحديث عن الوردة؛ فهي تنبت في الصحراء، أي أنها متفردة عن غيرها، وهكذا هو حال الثائر بين أمةٍ مهزومة. وهي تطلع نحو الشمس، والشمس ـ كما ذكرنا سابقاً ـ هي شمس القدس. وعندما يشير إلى أن هذه الوردة ستخرج من ذاته دلالة على أنها شعلة الثورة التي بدأت تبحث عمّن يوقدها. ثم ينقلنا الشاعر إلى بنية الصراع فهو رجل مُلاحَق من اليهود ومن خائني العرب . ورجل يلاحق بهذه الشدة لا يمكن أن يكون رجلا مهزوما. إذن ، هو رجل أنبت شعلة الثورة لأن الوردة منبثقة منه، وهذا هو سبب ملاحقته. ولا يزال الشاعر يتحدث عن بؤرة الصراع وهو في ذلك إنما يحاول أن يدفع العرب إلى النضال والمقاومة فهو يقول:
كان أمير الكفّار هناك يعد العدة ..
يخطب بالجند .. يمنيهم بالعسل الصافي ..
وعلاوات الغربة والرز الأمريكي
واستبشرت ، سألت إلى أين؟!
فقيل :إلى ( زائير ) ...
تبالهت ، همست : طريق القدس طويل..
وبكى جندي - من نسل ( بني الأحمر - غرناطة ...
فانتبه القوم ، ودل الحزن عليّ
يا ولدي قد دل الحزن عليّ
وأشار أمير الكفّار إليّ بإصبعه الذهبي
قلت : وماذا ظل بجسمي حتي يسلخ..
خلّفت شظايا منه بعمان وبغداد ومصر..
وبر الشام وبيروت ، وكل عواصم هذا الوطن العربي [19]
فالحديث عن القدس لم يعد إشارة إلى المكان الذي يحمل بُعداً تاريخياً فحسب، بل أصبح عند الشعراء رمزاً دينياً ورمزاً للوطن والوطنية ـ أيضا ـ؛ فعندما ذكر القدس حف هذه الذكرى بتغافل العرب عنها، وذلك برفض العرب وجود جسد غريب بينهم، ليس لهذا الجسد ذنب سوى أنه ثائر على السلطة الخائنة والمحتل ، ولذلك هو يقول :
قلت نبي الله ، عليك سلام الله...
أنا من بيت المقدس جئت
من جرح شهيد تصفر في جنبيه الريح..
ويزهر في عينيه الموت
من قال بأن الجسد الميت لا يلد الحي
قد مات على الحد فلم نعرف : أبناء قريظة قتلوه..
أم ( عبد الله بن أُبي)؟!
و(ابن أبي ) باع مفاتيح القدس لأبناء قريظة ...
والحرب غدت حربين [20]

هنا يحدد الشاعر عدوه؛ فإشارته إلى أبناء قريظة وعبد الله بن أبي هي كناية واضحة عن اليهود وأعلام معروفين من العرب ـ لم يشأ ذكرهم ـ باعوا وطنهم لليهود ليصبح الثائر في صراعين: صراع المحتل الخارجي، وصراع السلطة المحلية، لكنه يرفض الصراعين لأن الريح تصفر في جنبه ( دلالة ثورة)، ويزهر في عينيه الموت ( دلالة سعيه إلى الشهادة) .

ويرسم الشاعر صورة ثورية للقدس في قصيدته ( سيرة عبدالله بن صفية ) فهو يقول :
في ذاك اليوم
كان الوالي العربي ينام على صدر عشيقته ..
ويعانق في الحلم بغياً أخرى
في الدار تأهّب عبد الله كعادته ..
أن يلبس جلد الريح..
وكان يواري في عينيه بريقاً يشبه شمس القدس
حين انفجر الصبح الدموي على الطرقات
جاءت قوات الجرك والحرس الوطني إلى حارة عبد الله
لتفتش عن تفاح أريحا تحت رموش الأطفال
كي تبحث عن قمر القدس الهارب من ليل القدس
إلى الموال
والقدس مسجلة في قائمة الممنوعات
.... و لا تدخل إلا تهريباً ..
مثل أغاني الحب الصافية العذرية
واشتعلت أشجار فلسطين على جبهة عبد الله
يا عبد الله تفجر برقايا عبد الله
فالكف تلاطم شبرية [21]

وقوله : رسموا خط الطبشور الأسود بين القدس و الأحلام
بين وميض البرق وبين عيون الأيتام
في الدار تأهب عبدالله كعادة ...
وكان يواري في عينيه بريقأً يشبه شمس القدس
حين انفجرت بيروت
كما تنفجر الرحم المنفوخة بالأورام
صرخت أرملة من ( تل الزعتر )!
( يا خيال الليل ... عليك سلام الله...
القدس .. القدس سبيّة )
يا عبدالله تفجر برقاً [22]

فدعوى الثورة عند الشاعر هي دائمة، ومتجددة ـ فيما بحثت ـ نلحظ فيها أن الشاعر كلما ذكر القدس ألحقها بالشمس ثم بعد ذلك يتفجر مكان فيأمر عبدالله ـ إشارة إلى كل شخص مسلم ـ أن يتفجر غضباً وثورة حمية على مقدساته الإسلامية .

وهكذا ، فإن الشاعر كلما ذكر وطنه وذكر القدس كان يذكر معها التفجر والغضب ويدعو إلى الثورة ، فلم تعد القدس همّه فحسب ، بل الوطن وقضيّته هو المحور الذي يشوبه صراعات واقعية مستهدفة من المحتل، و من بعض المتواطئين من العرب، أو العرب الذين يحاولون إقصاء القدس وفلسطين من الذاكرة العربية، ولكن القدس و جل المدن الفلسطينية أضحت عند الشعراء القضية التي تسيطر على شعرهم.

[1] دنقل، أمل: الأعمال الشعرية،مكتبة مدبولي، د.ت، د.م، ص 245
[2] نفسه، ص ص 246 - 247
[3] دنقل: الأعمال الشعرية، ص ص 247 - 248
[4] نفسه: ص 248 - 249
* الديوان الذي أخذت منه القصيدة
[5] دنقل: الأعمال الشعرية، ص ص 344 - 345
[6] نفسه، ص ص 247 - 248
[7] نفسه، ص ص 249
[8] شنار، أمين: المشعل الخالد، ط1، المكتبة الفلسطينية، د.م، د.ت، ص 19
[9] نفسه، ص 61
[10] نفسه، ص 69
[11] خليل، إبراهيم: أمين شنار: الشاعر والأفق، ط1، الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، 1997، ص 29.
[12] نفسه، ص 29
[13] نفسه، ص 31
[14] نفسه، ص 30
[15] نفسه، ص 29
[16] نفسه، ص 29
[17] سيف، وليد: تغريبة بني فلسطين، ط1، دار العودة، بيروت، 1979، ص 26
[18] نفسه، ص 28
[19] نفسه ، ص 39 - 40
[20] نفسه، ص 53
[21] نفسه، ص 95
[22] نفسه، ص 111 - 113