Friday, August 18, 2006

المصطلح البلاغي عند ابن سنان الخفاجي-

:تمهيد-

لقد أقام ابن سنان الخفاجي كتابه سر الفصاحة على أساس الفرق بين الفصاحة والبلاغة؛ فذكر أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ وأن البلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني ، فلا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة ؛ فكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا . ثم ذكر أن الفصاحة لا تتحقق في الألفاظ إلا بشروط عدة ، وأن تلك الشروط تنقسم إلى قسمين : الأول، يوجد في اللفظة الواحدة على انفرادها ، والثاني، يوجد في الألفاظ المنظوم بعضها مع بعض .

وبهذا انقسم الكلام في كتاب سر الفصاحة إلى هذه الأقسام : الكلام على شروط الفصاحة في اللفظة الواحدة ، والكلام على شروطها في الألفاظ المنظوم بعضها مع بعض، والكلام على المعاني مفردة عن الألفاظ . وقد تكلم في القسم الأول على شروط ثمانية لفصاحة الكلمة . وبسط الكلام فيها بسطا وافيا . وتكلم في القسم الثاني على ما يوجد من هذه الشروط في الألفاظ المنظوم بعضها مع بعض . ثم تكلم على ما يختص من ذلك بالتأليف ، فذكر منه: وضع الألفاظ موضعها حقيقة ومجازا ، وألا يكون في الكلام تقديم وتأخير يفسد المعنى وإعرابه ، وألا يكون الكلام مقلوبا فيفسد المعنى ويصرفه من وجهه ، وحسن الاستعارة . إلى أن ذكر أن من شروط الفصاحة الإيجاز، وقسم دلالة الألفاظ إلى المساواة والتذييل والإشارة وبين مواضعها ، ثم تكلم في القسم الثالث على الأوصاف التي تطلب من المعاني ، فذكر منها الصحة في التقسيم ، وصحة المقابلة في المعاني ، وصحة النسق والنظم ، وصحة التفسير ، والتحرز مما يوجب الطعن ، والاستدلال بالتمثيل ، والاستدلال بالتعليل . ([1])

وقد ذكر الخفاجي المجاز عرضا في فصله عن الكلام وذلك قوله : " الكلام اسم عام يقع على القليل والكثير ، وذكر السيرافي أنه مصدر ، والصحيح أنه اسم للمصدر والمصدر التكليم. قال الله تعالى : ( وكلم الله موسى تكليما )، ولعل أبا سعيد تسمح في إيراد ذلك وقاله مجازا.([2])
إلا أنه ذكره بمعناه البلاغي ـ أيضا ـ ، وذلك قوله: إن أحد الأصول في حسن التأليف وضع الألفاظ موضعها حقيقة أو مجازا لا ينكره الاستعمال ولا يبعد فيه . ([3]) وفيما يلي تفصيل المواضع التي ذكر بها الخفاجي المصطلح البلاغي:
¨ المجاز :

ومن ذلك قوله ـ إنه جعل للزمان فؤادا ملأته هذه الهمة على مقابلة اللفظ باللفظ لما افتتح البيت بقوله : ( تجمعت في فؤاده همم ) ـ فليس بمعتمد ، لأن مقابلة اللفظ باللفظ على ما أراده مجاز، والمجاز لا يقاس عليه ، وليس يحسن بنا أن نقابل اللفظ باللفظ في كل موضع من الكلام قياسا على مقابلة اللفظ باللفظ في قوله تعالى: ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) كما لا يجوز منا أن نحذف المضاف ونقيم المضاف إليه مقامه أبدا اتباعا لقوله عز اسمه : ( واسأل القرية التي كنا فيها ) والمراد أهل القرية ، حتى نقول ـ ضربت زيدا ـ ونريد غلام زيد ، والعلة في الجميع واحدة ، وهو أن المجاز لا يقاس عليه، وإنما يحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه في موضع دون موضع ، بحسب ما يتفق من فهم المقصود وزوال اللبس والإشكال . وكذلك نقابل بعض الكلام ببعض بحيث لا يعرض فيه فساد في المعنى ولا خلل في العبارة ، فإذا اعترضنا في المقابلة مثل هذه الاستعارة لم نجزها ، كما إذا تطرق إلينا في حذف المضاف وجود اللبس لم نركن إليه ولا نعرج عليه. ([4])

¨ الاستعارة :

ومن وضع الألفاظ في موضعها حسن الاستعارة ، وقد حدها أبو الحسن علي بن عيسى الرماني فقال : هي تعليق العبارة على غير ما وضعت في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة ، وتفسير هذه الجملة أن قوله عز وجل : ( واشتعل الرأس شيبا ) استعارة ، لأن الاشتعال للنار ، ولم يوضع في أصل اللغة للشيب ، فلما نقل إليه بأن المعنى لما اكتسبه من التشبيه ، لأن الشيب لما كان يأخذ بالرأس ويسعى فيه شيئا فشيئا حتى يحيله إلى غير لونه الأول ، كان بمنزلة النار التي تشتعل في الخشب وتسري حتى تحيله إلى غير حاله المتقدمة . فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان ، ولا بد من أن تكون أوضح من الحقيقة لأجل التشبيه العارض فيها ، لأن الحقيقة لو قامت مقامها كانت أولى ، لأنها الأصل والاستعارة الفرع ، وليس يخفى على المتأمل أن قوله عز اسمه: ( واشتعل الرأس شيبا ) أبلغ من ( كثر شيب الرأس ) وهو حقيقة هذا المعنى . وقول امرئ القيس ـ قيد الأوابد ـ أبلغ من ـ مانع الأوابد عن جريها ـ والأصل في ذلك ما أفاده التشبيه في الاستعارة من البيان .

أقسام الاستعارة:
ولا بد للاستعارة من حقيقة هي أصلها : وهي مستعار ، ومستعار منه ومستعار له . فالمستعار لفظ الاشتعال فيما مثلنا به ، والنار مستعار منه ، والشيب مستعار له . ولها تأثير في الفصاحة ظاهر وعلقة وكيدة ، والبعيد منها يقضي بإطراح الكلام ، ويذهب طلاوته ورونقه . ولأجل هذا احتاج إلى إيضاحها ووصف ما يحسن منها ويقبح ، والإكثار من الأمثلة التي تدل على ما أريده .

وهي على ضربين : قريب مختار ، وبعيد مطروح ، فالقريب المختار ما كان بينه وبين ما استعير له تناسب قوي وشبه واضح ، والبعيد المطروح إما أن يكون لبعده مما استعير له في الأصل ، أو لأجل أنه استعارة مبنية على استعارة فتضعف لذلك ، والقسمان معا يشملهما وصفى بالبعد ، لكن هذا التفصيل يوضح ، وإذا ذكرت الأمثلة بان القريب في الاستعارة من البعيد ، وعرف الرضى منها والمكروه ، وتنزلت الوسائط بينهما بحسب النسبة إلى الطرفين .

وهذا الفن قد أورده المحدثون كثيرا ، وإن كان المتقدمون بدؤوا به ، وممن أكثر استعماله أبو تمام حبيب بن أوس ، فأورد منه في شعره الجيد المحمود ، والردئ الذي هو غاية في القبح . وسأذكر في شعره خاصة ما يستدل به على ذلك وقد خرج علي بن عيسى ما ورد في القرآن من الاستعارة ، فكان من ذلك قوله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلنه هباء منثورا ) لأن حقيقته عمدنا لكن ( قدمنا ) أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم يقدم من السفر ، لأنه من أجل إمهاله لهم عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذا قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم به ، وفي هذا تحذير من الإغترار بالإمهال . وقوله تعال : ( إنا لما طغى الماء حملنا كم في الجارية ) . لأن حقيقة ( طغى ) علا ، والاستعارة أبلغ ، لأن ـ طغى ـ علا قاهرا . وكذلك : ( بريح صرصر عاتية ) لأن حقيقة ( عاتية ) شديدة ، والعتو أبلغ لأنه شدة فيها تمرد. وقوله عز اسمه : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) لأن انسلاخ الشئ عن الشئ هو أن يتبرأمنه ويزول عنه حالا فحالا ، وكذلك انفصال النهار عن الليل ، والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان . وقوله عز وجل : ( والصبح إذا تنفس ) لأن تنفسها هنا مستعار، وحقيقته بدأ انتشاره ، و( تنفس ) أبلغ لما فيه من التروح عن النفس . وقوله تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط )، وحقيقته لا تمنع نائلك كل المنع ، والاستعارة أبلغ ، لأنه جعل منع النائل بمنزلة غل اليد إلى العنق ، وحال الغلة أظهر ، وأمثال هذا في كتاب الله كثيرة ، وهو جار على عادة العرب المعروفة في الاستعارة .
ومنه قول طفيل الغنوي :
وجعلت كوري فوق ناجية يقتات شحم سنامها الرحل
فإن استعارة هذا البيت مرضية عند جماعة العلماء بالشعر ، لأن الشحم لما كان من الأشياء التي تقتات ، وكان الرجل يتخونه ويذيبه ، كان ذلك بمنزلة من يقتاته ، وحسنت استعارته القوت للقرب والمناسبة والشبه الواضح . ([5])

الاستعارة البعيدة :

ومن هذا الضرب قول أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان فيما قرأته عليه :
إذا ذن أنف البرد سرتم فليته عقيبة التنائي كان عوقب بالجدع
وقال أيضا :
للطيب في منزلها سورة مناخر البدر فيها تفغم
فاستعار للبرد أنفا. وقال سلم الخاسر :
لولا المقادير ما حط الزمان به لكن تولى بأنف كلمه دام
فجعل للزمان أنفا داميا.

وكل هذا من الاستعارة البعيدة الذميمة ، وقد حمل بعض المفسرين قول ذى الرمة ـ أنف الكبرياء ـ على أنه أراد أوله والمقدم منه ، كما قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر
أي في أول جريه أو في أول الغيث، وهذا التأويل على بعده ليس يسوغ في جميع الأبيات المذكورة ، لأن المعنى فيها مبني على الأنف الذي هو العضو . ([6])

الاستعارة المحمودة:
ومن الاستعارة المحمودة التي كأنها حقيقة قول شيخنا أبي العلاء :
وكأن حبك قال حظك في السرى فالطم بأيدي العيس وجه السبسب
وهذا من قربه لو قيل إنه حقيقي غير مستعار جاز ذلك ، وإن كان على محض الاستعارة أحسن وأحمد. ([7])

المعاظلة :

ومن وضع الألفاظ موضعها اللائق بها ألا يكون الكلام شديد المداخلة يركب بعضه بعضا ، وهذا هو المعاظلة التي وصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه زهير بن أبي سلمى يتجنبها فقال : كان لا يعاظل بين الكلام . لأن المعاظلة المداخلة ، ومن ذلك يقال ـ تعاظلت الكلاب ـ وغيره مما يتعلق بعضه ببعض عند الفساد ، وقد غلط في تمثيل هذا أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، وبين خطأه فيه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي رحمه الله . لأن أبا الفرج قال : إن المداخلة التي تكره ووصف عمر رضي الله عنه زهيرا بتجنبها أي أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه . قال :وما أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة ،مثل قول أوس بن حجر.
وذات هدم عار نواشرها تصمت بالماء تولبا جدعا
فسمى الصبي تولبا والتولب ولد الحمار . ومثل قول الآخر :
وما رقد الولدان حتى رأيته على البكر يمريه بساق وحافر
فسمى رجل الإنسان حافرا ، وهذا ليس من المعاظلة التي هي ركوب بعض الكلام بعضا ومداخلة بعضه في بعض والصحيح من تمثيل ذلك ما ذكره أبو القاسم الآمدي وهو قول أبي تمام :
خان الصفاء أخ خان الزمان أخا عنه فلم يتخون جسمه الكمد
لأن ألفاظ هذا البيت يتشبث بعضها ببعض ، وتدخل الكلمة من أجل كلمة أخرى تجانسها وتشبهها ، مثل خان وخان ويتخون وأخ وأخا ، فهذا هو حقيقة المعاظلة .([8])

¨ الفرق بين الاستعارة والتشبيه:

وإن قال قائل : ما الفرق بين الاستعارة والتشبيه إذا كان الأمر على ما ذكرتم ؟ قيل : الفرق بينهما ما ذكره أبو الحسن ، وهو أن التشبيه على أصله لم يغير عنه في الاستعمال ، وليس كذلك الاستعارة ، لأن مخرج الاستعارة مخرج ليست العبارة له في أصل اللغة ، على أن الرماني قال في كلامه : إن التشبيه في الكلام بأداة التشبيه . وهو يعني : كأن والكاف وما جرى مجراهما. وليس يقع الفرق عندي بين التشبيه والاستعارة بأداة التشبيه فقط ، لأن التشبيه قد يرد بغير الألفاظ الموضوعة له ويكون حسنا مختارا ، ولا يعده أحد في جملة الاستعارة لخلوه من آلة التشبيه . ومن هذا قول الشاعر :
سفرن بدورا وانتقبن أهلة ومسن غصونا والتفتن جآذرا
وقول الآخر :
وأسبلت لؤلؤا من نرجس فسقت وردا وعضت على العناب بالبرد
وكلاهما تشبيه محض وليس باستعارة ، وإن لم يكن فيهما لفظ من ألفاظ التشبيه ، وإنما الفرق بين الاستعارة والتشبيه ما حكيناه أولا.

التشبيه :

وقد كان بعض الأدباء يعيب قول ابن الرومي :
شعرها من فضة وثغرها من ذهب
ويقول : إن التشبيه بالفضة والذهب إنما يقع في المدح ، كان يجب أن يهجو هذه المرأة بما يستعمل من ألفاظ الذم وطرقه.([9])

ومن الصحة صحة التشبيه ، وهو أن يقال أحد الشيئين مثل الآخر في بعض المعاني والصفات ،ولن يجوز أن يكون أحد الشيئين مثل الآخر من جميع الوجوه حتى لا يعقل بينهما تغاير ألبتة ، لأن هذا لو جاز لكان أحد الشيئين هو الآخر بعينه ، وذلك محال . وإنما الأحسن في التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر في أكثر صفاته ومعانيه ، وبالضد حتى يكون رديء التشبيه ما قل شبهه بالمشبه به .
وقد يكون التشبيه بحروفه ، كالكاف وكأن ما يجري مجراهما ، وقد يكون بغير حرف على ظاهر المعنى ، ويستحسن ذلك لما فيه من الإيجاز .

والأصل في حسن التشبيه أن يمثل الغائب الخفي الذي لا يعتاد بالظاهر المحسوس المعتاد ، فيكون حسن هذا لأجل إيضاح المعنى وبيان المراد ، أو يمثل الشيء بما هو أعظم وأحسن وأبلغ منه ، فيكون حسن ذلك لأجل الغلو والمبالغة .([10])

حسن الكناية :
ومن هذا الجنس حسن الكناية عما يجب أن يكنى عنه في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح ، وذلك أصل من أصول الفصاحة ، وشرط من شروط البلاغة . وإنما قلنا في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح ، لأن مواضع الهزل والمجون وإيراد النوادر يليق بها ذلك ، ولا تكون الكناية فيها مرضية ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل غرض فنا وأسلوبا .
ومما يستحسن من الكنايات قول امرئ القيس :
فصرنا إلى الحسنى ودق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي إذلال
لأنه كنى عن المباضعة بأحسن ما يكون من العبارة .

وروى عن أبي الحسيب جعفر بن محمد بن ثوابة : أنه لما أجاب أبا الجيش خمارويه ابن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله من كتابه بإنفاذ ابنته التي زوجها منه ، قال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها : وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك ، عناية بها ، وحياطة لها ، ورعاية لمواتك فيها . وقال للوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان ابن وهب: والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة . واستحسنت هذه الكناية حتى صار الكتاب يعتمدونها .

ومن هذا الفن أيضا من حسن الكناية قول أبي الطيب :
تدعي ما ادعيت من ألم الشو ق إليها والشوق حيث النحول
لأنه كنى عن كذبها فيما ادعته من شوقها بأحسن كناية . ([11])

الإرداف والتتبيع :

ومن نعوت البلاغة والفصاحة أن تراد الدلالة على المعنى ، فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له في اللغة ، بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى ضرورة ، فيكون في ذكر التابع دلالة على المتبوع ، وهذا يسمى الإرداف والتتبيع لأنه يؤتى فيه بلفظ هو ردف اللفظ المخصوص بذلك المعنى وتابعه ، والأصل في حسن هذا أنه يقع فيه من المبالغة في الوصف مالا يكون في نفس اللفظ المخصوص بذلك المعنى ، ومثاله قول عمر بن أبي ربيعة :
بعيدة مهوى القرط إما لنوفل أبوها وإما عبد شمس وهاشم

فإنه إما أراد أن يصف هذه المرأة بطول العنق ، فلو عبر عن ذلك باللفظ الموضوع له لقال ـ طويلة العنق ـ فعدل عن ذلك وأتى بلفظ يدل عليه وليس هو الموضوع له ، فقال ـ بعيدة مهوى القرط ـ فدل ببعد مهوى قرطها على طول الجيد ، وكان في ذلك من المبالغة ما ليس في قوله ـ طويلة العنق ـ لأن بعد مهوى القرط يدل على طول أكثر من الطول الذي يدل عليه ـ طويلة العنق ـ لأن كل بعيدة مهوى القرط طويلة العنق ، وليس كل طويلة العنق بعيدة مهوى القرط ، إذا كان الطول في عنقها يسيرا ، وهذا موضع يجب فهمه .

ومنه قول امرئ القيس :
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فإنه لما أراد أن يصف ترفه هذه المرأة ونعمتها قال : نؤوم الضحى يبقى فتيت المسك فوق فراشها لم تنتطق لتخدم نفسها . فعبر بذلك عن غناها وترفهها وخفض عيشها ، وأتى بألفاظ تدل على ذلك أبلغ مما يدل عليه قوله ـ إنها غنية مرفهة . ([12])

التمثيل :

ومن نعوت الفصاحة والبلاغة أن يراد معنى فيوضح بألفاظ تدل على معنى آخر وذلك المعنى مثال للمعنى المقصود، وسبب حسن هذا مع ما يكون فيه من الإيجاز أن تمثيل المعنى يوضحه ويخرجه إلى الحس والمشاهدة ، وهذه فائدة التمثيل في جميع العلوم ، لأن المثال لا بد من أن يكون أظهر من الممثل ، فالغرض بإيراده إيضاح المعنى وبيانه ، ومن هذا الفن قول الرماح بن ميادة :
ألم تك في يمنى يديك جعلتني فلا تجعلها بعدها في شمالكما
فأراد ـ إني كنت عندك مقدما فلا تؤخرني ، ومقربا فلا تبعدني ، فعدل في العبارة عن ذلك إلى إني كنت في يمينك ، فلا تجعلني في شمالك ، لأن هذا المثال أظهر إلى الحس . ([13])


[1] انظر: الخفاجي، ابن سنان، سر الفصاحة، المقدمة ( أ – و ). سيشار إلى هذا المصدر لاحقا بـ ( سر الفصاحة )
[2] سر الفصاحة، ص 25
[3] سر الفصاحة، ص 124
[4] انظر: سر الفصاحة، ص ص 151 - 153
[5] سر الفصاحة، ص ص 134-137
[6] سر الفصاحة، ص ص 159-160
[7] سر الفصاحة، ص 161
[8] سر الفصاحة، ص ص 183 - 185
[9] سر الفصاحة، ص 190
[10] سر الفصاحة، ص 290
[11] سر الفصاحة، ص 192 + 194
[12] سر الفصاحة، ص ص 270 - 271
[13] سر الفصاحة، ص 273