Tuesday, August 22, 2006

أثر خلاء مقامات الهمذاني والحريري في الحالة الشعورية

أثر خلاء مقامات الهمذاني والحريري في الحالة الشعورية .


إن خلاء المكان باعث يحث الإنسان على الإطراق في التفكير والتأمل فينتقل المرء إلى عوالم زمانية وخيالية مختلفة يشكلها وهو يسير على راحلته متجاوزا المسافة المكانية والزمانية وهو يبحث في أعماق ذاته، فيلحظ نشوء مشاعر مختلفة تتوافق تارة وتتضارب تارة أخرى.

وقد برزت بنية الصحراء في مقامات الهمذاني والحريري مشكلة خلاء المكان؛ فصورت لنا الانعكاسات النفسية لشخوص حكاياتها، ذلك أن وصف (المدينة /الصحراء) يواجهنا بعدد من الثنائيات الضدية: الازدحام والخلاء، والاستقرار والترحال، والأمان والخوف. وتبعا لذلك تتغير أمزجة شخوص الحكايات وطبائعهم وفقا لمكان وجودهم وما يتركه هذا المكان من أثر فيهم؛ فالمكان " يبدو كما لو كان خزانا حقيقيا للأفكار والمشاعر والحدوس، حيث تنشأ بينه وبين الإنسان علاقة متبادلة يؤثر فيها كل طرف على الآخر." ([1])

والمدينة بأماكنها المختلفة تعج بالناس، أما الصحراء فتخلو من هذا التجمع البشري، ونظرا لخلائها فإن الحكايات التي تدور أحداثها في الصحراء تبرز لنا طابع الشخصية النفسي الذي قد يكون الوحدة، أو الخوف عند المرور بمكان لا يوحي بالأمان؛ ولهذا تظهر فرحة الشخصية عند التقائه بمرتحل في الصحراء كي يؤنس وحدته في سفره، أو قد لا يسافر إلا مع رفيق أو مع قافلة. ووجود الشخصية في المدينة يقتضي البقاء مدة زمنية طويلة إيحاء بالاستقرار، وعندما تريد شخصية المقامة الانتقال من مكان إلى آخر فلا بد لها من أن تصحر لتكون الصحراء الخلاء الذي يربط المدن فيما بينها.

والمدينة تتميز بقيودها وحدودها وأما الصحراء فلا قيود لها ولا حدود، إذ إن الإنسان في الصحراء قد يتعرض لأمور خطرة ما كانت لتحدث له في المدينة التي تتميز بسلطتها القانونية والقضائية. وهذه السلطة يتنافى وجودها في مكان متسع لا تجمع فيه، ومن هنا تردد في الحكايات تعرض الشخوص لحيوانات مفترسة أو قطاع طرق.

وخير مثال على ذلك خداع السروجي وزوجته القاضي في المقامة الرملية فاحتالا عليه وحصلا على ألفي درهم؛ ثم كان مهربهما الوحيد إلى الصحراء لقول الواشي: " ما زلت أسْتَقرِي الطرق، وأستفتح الغلق، إلى أن أدركتهما مصحرين، وقد زَمَّا مَطيَّ البين" ([2])؛ فاختيار السروجي للصحراء مكانا للهروب لعلمه المسبق بأن الطائلة القانونية لن تلحق به إلى الصحراء، ولذلك لم يستطع الواشي إعادتهما إلى القاضي مع أنه أدركهما، لأن سلطته انتهت بانتهاء حدود المدينة المكانية.

وبما أن الصحراء فقدت الأمان فإن من يقصدها يتوجس خيفة من أي بشري يظهر له، فلا يأمن على نفسه منه إلا بعد الثتبت من هويته. وهذا ما حدث مع عيسى بن هشام في المقامة الملوكية، إذ يقول: " كنت في منصرفي من اليمن وتوجهي إلى نحو الوطن، أسري ذات ليلة لا سانح بها إلا الضبع. ولا بارح إلا السبع. فلما انتضي نصل الصباح، وبرز جبين المصباح، عَنَّ لي في البراح، راكب شاكي السلاح، فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من مثله إذا أقبل. لكني تجلدت فوقفت وقلت: أرضك لا أم لك فدوني شرط الحداد. وخرط القتاد، وحمية أزدية. وأنا سلم إن كنت. فمن أنت؟ فقال: سلما أصبت، ورفيقا كما أحببت. فقلت: خيرا أجبت. " ([3]) .

فعيسى بن هشام يسافر وحيدا لا مؤنس له إلا الضبع والسبع ووحوش الصحراء؛ وهذه شجاعة تشوبها الخشية عندما ظهر له الرجل، وموضع خشيته أنه رأى سلاحا يحمله الرجل، وتتمثل هذه الخشية وشعوره بالخوف عند قوله: (فأخذني منه ما يأخذ الأعزل، من مثله إذا أقبل) ، ويمثل لنا الكاتب هذه الحالة الإنسانية وصراعها الداخلي؛ فكلما زاد خوفه ازدادت شجاعته وهذا هو قوله: (ولكني تجلدت فوقفت وقلت: أرضك لا أم لك... )؛ فهذه الطريقة التي يتحدث بها ما دلت إلا على موقف قوة يخفي فيها شعوره بالخوف. وتصرفه هذا يحوي تناقضا صارخا؛ فأثناء الليل ووجود الوحوش حوله لم يخف، وعندما حل الصباح ورأى إنسانا شعر بالخوف، وهذا ما يدل على استخدام الصحراء بوصفها بنية تحمل المتناقضات.

ومن ذلك ما يذكره الهمذاني في المقامة الصيمرية إذ يقول: " جلت خراسان، الخراب منها والعمران، إلى كرمان وسجستان وجيلان إلى طبرستان وإلى عمان، إلى السند والهند والنوبة والقبط واليمن والحجاز ومكة والطائف أجول البراري والقفار؛ وأصطلي بالنار، وآوي مع الحمار..." ([4]) فنقلنا الصيمري من مدينة إلى أخرى بمدة زمنية سريعة بينما هي تمثل ـ واقعا ـ مدة زمنية قد تستمر إلى سنوات حتى ينهي تجواله بين هذه المدن والتنقل بينها. ناهيك أن الكاتب غيب معاناته في الارتحال بين هذه المدن إلا أنه ذكر ارتحاله عرضا عندما قال: ( أجول البراري والقفار) وهنا نلاحظ زمنية المدينة نسبة إلى زمنية الصحراء والخلاء؛ فلو قسنا زمن النص بين المدينة والصحراء فحديثه عن المدن أطول، ذلك أن الكاتب عند مروره بالمدن لا بد له من الوقوف فيها والتعامل مع أهلها، أما الخلاء فيجعله ممرا يصل به بين هذه المدن.

وما نلمحه عند أبطال المقامات الهمذانية والحريرية أنهم لا يطيلون المكوث في المدن حتى لا يفتضح أمرهم؛ فأبو زيد السروجي يمضي وقتا عند قبيلة عربية وبعد نيل مراده يحدث الحارث بن همام بقوله: " إنه لم يبق لي بهذه الأرض مرتع، ولا في أهلها مطمع. فإن كنت الرفيق، فالطريق الطريق. فسرنا منها متجردين" ([5]) فعندما عنّ للسروجي الرحيل طلب من صاحبه مرافقته فلبى دونما تردد. ونلاحظ في النص تعاقب حرف الفاء وتكراره؛ فقوله: ( فإن كنت الرفيق، فالطريق الطريق) دلالة على اقتران الرفيق والسفر، وحاجة السروجي الملحة لمغادرة المكان. إلا أن النص أخفى موافقة الحارث بن همام واختصر زمن السرد والزمن الحقيقي بأداء الفعل مباشرة، فموافقة الحارث لم تظهر قولا في النص وإنما فعلا لقوله: ( فسرنا ) ، ليكون إيجاد الرفيق أمر لازب لحدوث الفعل.

وما رحيل الحارث بن همام مع السروجي إلا ثقة به واطمئنانا إليه، وكذا كان فعله عندما ارتحل إلى دمياط، فهو يقول: " فرافقت صحبا قد شقوا عصا الشقاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق، حتى لاحوا كأسنان المشط في الاستواء، وكالنفس الواحدة في التئام الأهواء، وكنا مع ذلك نسير النجاء، ولا نرحل إلا كل هوجاء، وإذا نزلنا منزلا، أو وردنا منهلا، اختلسنا اللبث، ولم نطل المكث. فعنّ لنا إعمال الركاب، في ليلة فتية الشباب، غُدَافِيَّةِ الإهاب. فأسرينا إلى أن نضا الليل شبابه، وسلت الصبح خِضَابَهُ، فحين مللنا السرى وملنا إلى الكرى، صادفنا أرضا مخضلة الربا، معتلة الصَّبا. فتخيرناها مناخا للعيس، ومحطا للتعريس. " ([6]) .

فالأشخاص الذين سافر معهم الحارث بن همام هم خير الرفقة في السفر، فهم على وفاق، ولا نزاع بينهم، وإن المرء ليأمنهم على نفسه في مرتحله. ومع ذلك كله؛ فقد تجاوزوا الصحراء مسرعين، ولم يطيلوا المكث للراحة، بل إنهم ساروا ليلهتم التي ما كانوا ليسيروها لولا الرفقة؛ فهي ليلة ظلماء لا قمر فيها، وبالرغم من شدة ظلامها إلا أنهم ارتحلوا فيها إلى أن كدّهم التعب فاحتاجوا النوم، لذا تخيروا منطقة ليناموا فيها فكانت منطقة ذات ربوة مبتلة وأرضها خصبة وذات هواء عليل، فارتاحوا فيها. إلا أن القارئ ليتساءل لماذا قال الحارث بن همام: (اختلسنا اللبث، ولم نطل المكث) مع أن رفقته رفقة صالحة ويطلبها الإنسان؟

لا شك أن الخلاء يلقي الرهبة في نفس الشخص؛ فيحتاج رفيقا مؤنسا أو مشجعا على اجتياز الخلاء. وهذا ما يفسر تخير المكان عند المبيت، الأمر الذي يؤنس الإنسان ويريحه قبل نومه، ليكون المكان ذا أثر يساعد على اطمئنان النفس وهدوئها.

وقد يؤثر المكان سلبا على الشخصية؛ فبعد حصول السروجي على مال الجماعة ـ وهم في منطقة مقفرة من الصحراء ـ لم يجد بدا من الهرب عندما اقتربوا من قرية لقول الحارث بن همام: " فلما رأى أبو زيد امتلاء كيسه، وانجلاء بوسه، قال لي: إن بدني قد اتسخ، ودرني قد رسخ، أفتأذن لي في قصد قرية لأستحم، وأقضي هذا المهم؟ فقلت: إذا شئت فالسرعة السرعة، والرجعة الرجعة. فقال: ستجد مطلعي عليك، أسرع من ارتداد طرفك إليك. ثم استنّ استنان الجواد في المضمار، وقال لابنه بدار بدار. ولم نخل أنه غرّ وطلب المفر. " ([7])

وفي الرحلة يصعب على الشخص الافتراق عن رفيقه، فذلك عيسى بن هشام يقول في المقامة الشيرازية: " لما قفلت من اليمن. وهممت بالوطن. ضم إلي رفيق رحلة، فترافقنا ثلاثة أيام حتى جذبني نجد. والتقمه وهد. فصعدت وصوّب. وشرّقت وغرب. وندمت على مفارقته بعد أن ملكني الجبل وحزنه. وأخذه الغور وبطنه. فوالله لقد تركني فراقه. وأنا أشتاقه. ونما درني بَعده. أقاسي بُعده. " ([8])، فقد سار معه هذا الرفيق مرتحلا بارتحاله، وينزل بنزوله مدة ثلاثة أيام، وهي مدة كافية ليعتاد عليه، لا سيما وأنهما يسيران وحيدين لا ثالث لهما. ولم يزالا سائرين معا حتى وصلا إلى مكان الافتراق؛ فأخذ عيسى بن هشام طريق نجد وأخذ صديقه سبيل الغور.

ويصور الكاتب هذين المكانين بقوله: ( جذبني نجد ) دلالة على التكلف في الصعود، وأنه احتاج إلى جذب. وقوله: ( التقمه وهد ) دلالة على سهولة النزول فيه، وكأنه ملتقط للهابط. وزاد المعنى إيضاحا بقوله: ( فصعدت وصوب ) أي أنه ارتقى النجد وانحدر صاحبه إلى السهل. فمهمة صاحبنا عيسى بن هشام هي الأصعب لأنه يرتقي ويصعد، وفي هذا الصعود جهد وعناء يزيدهما صعوبة الوحدة مما دعاه إلى الندم على مفارقة صديقه. ولكن الزمن الذي ندم فيه هو مقصدنا؛ فهو ندم بعد أن ملكه الجبل وطرقه الغليظة، فكان قد تغلغل في هذه الطرق تغلغلا لا يسهّل عليه الرجوع طلبا للرفيق، ولولا هذه الصعوبة لرجع إليه استئناسا به، واستعادة لنعيم صحبته. وما منعه أن كلا منهما أبعد في طريقه، وصار الطالب بحيث لا يدرِك والمطلوب بحيث لا يدَرك. ([9])

وكما تصعب مفارقة الرفيق في الرحلة يصعب على المرتحل تقبل أي مرافق أثناء ارتحاله، وهذا ما يخبرنا به عيسى بن هشام إذ يقول: " كنت في بعض بلاد فزارة مرتحلا نجيبة.وقائدا جَنيبة. يسبحان بي سبحا. وأنا أهم بالوطن فلا الليل يثنيني بوعيده. ولا البعد يلويني ببيده. فظللت أخبط ورق النهار بعصا التَّسْيَارِ. وأخوض بطن الليل. بحوافر الخيل. فبينا أنا في ليلة يضل فيها الغطاط. ولا يبصر فيها الوطواط. أسيح سيحا ولا سانح إلا السبع. ولا بارح إلا الضبع. إذ عنّ لي راكب تام الآلات يؤُّمُّ الأثلات. يطوي إليَّ منشور الفلوات. فأخذني منه ما يأخذ الأعزل. من شاكي السلاح لكني تجلدت فقلت: أرضك لا أم لك فدونك شرط الحداد. وخرط القتاد. وخصم ضخم. وحمية أزدية. وأنا سلم إن شئت. وحرب إن أردت. فقل لي من أنت. فقال: سلما أصبت."([10])
فصاحبنا يقصد وطنه متجاوزا صحراء مترامية الأطراف مع بعد المسافة التي يقصدها، فبينما هو في ليلة حالكة الظلمة لا مؤنس له فيها إلا الحيوانات المفترسة، ظهر له رجل متسلح يسير نحوه بسرعة، فاجتمع على صاحبنا اتساع الصحراء بحيواناتها المفترسة وليلها الحالك ورجل مسلح يقصده، وكل أمر منها يرهب الإنسان خوفا، ويحمل منه هما. لكنه اتخذ الموقف النموذج الذي يفخر الرجل به والذي يطمح إليه الإنسان، ذلك أنه تجلد ولم يظهر خوفه؛ فبدأه الكلام: ( أرضك لا أم لك ... ) ليظن فيه قوة فيخشاه، وحمّل لفظه وعيدا بقتال رجل ذي قبيلة كبيرة، فإن حدث له سوء سيكثر طالبوه. ومن ثم يخيره بقوله: ( وأنا سلم إن شئت، وحرب إن أردت) فقدّم السلم على الحرب لأن هذا مبتغاه، وما حديثه عن السلاح والقوة والحرب إلا ترهيبا لذلك الرجل حتى لا يجد عنده ضعفا فيستغله، وقد نجحت هذه الطريقة في ترهيب الرجل عندما أجاب: ( سلما أصبت).


ـ مشكلات المكان وأثرها في نفس البطل:

وأصدق شاهد يعبر عن تصرفات الشخوص في البادية هم أهلها الذين يعيشون فيها، ذلك أن الحارث بن همام يحدثنا عن مجاورته لأهل الوبر حيث اتخذ قطيعا من الإبل والأغنام وانضم إلى قبيلة عربية فأكرموا مقامه عندهم إلى أن ضاعت له ناقة كثيرة اللبن، قيقول: " فلم أطب نفسا بإلغاء طلبها، وإلقاء حبلها على غاربها. فتدثرت فرسا محضارا، واعتقلت لَدْنا خَطَّارا، وسريت ليلتي جمعاء، أجوب البيداء، وأقتري كل شجراء ومرداء. إلى أن نشر الصبح راياته، وَحَيعَل الداعي إلى صلاته. فنزلت عن متن الركوبة، لأداء المكتوبة. ثم حلت في صهوتها، وفررت عن شحوتها، وسرت لا أرى أثرا إلا قفوته، ولا نشزا إلا علوته، ولا واديا إلا جزعته، ولا راكبا إلا استطلعته. وجِدِّي مع ذلك يذهب هدرا ولا يجد ورده صدرا، إلى أن حانت صَكَّةُ عُمَي، ولفح هَجِير يذهل غيلان عن مَيَّ. وكان يوما أطول من ظل القناة، وأحر من دمع المقلاة. فأيقنت أني إن لم أستكن من الوقدة، وأستجم بالرقدة، أدنفني اللُّغُوبُ، وعلقت بي شعوب. فعجت إلى سرحة كثيفة الأغصان، وريقة الأفنان، لأغور تحتها إلى المغيربان، فوالله ما استروح نفسي، ولا استراح فرسي، حتى نظرت إلى سانح،في هيئة سائح، وهو ينتجع نعجتي، ويشتد إلى بقعتي. فكرهت انعياجه إلى معاجي، فاستعذت بالله من شر كل مفاجي. " ([11])

وسعي الحارث بن همام بحثا عن الناقة في الخلاء الواسع كشف عن صور مختلفة من الخلاء، ومنها: المنطقة الشجراء التي يكثر فيها الشجر والنبات. والمنطقة المرداء التي لا نبات فيها. والمنطقة النشز التي تشير إلى المكان المرتفع والذي يجهد الإنسان في صعوده. والمنطقة الوادي التي ينزلها الراكب عرضا حتى يسهل النزول، فلا يقع إن نزل مستقيما. وهو مع كل ذلك لا يجد أثرا لضالته، وأثناء وجوده في الصحراء يصف لنا الحارث بن همام حال النهار بها، وخصوصا وقت الظهيرة؛ فلم يثنه عن البحث ليل ولا نهار إلا أداء الفريضة، واشتداد الحر لصعوبة تحمل حرارة الصحراء.

ويعود بنا الحارث بن همام إلى وصف منطقة جديدة في الصحراء؛ فثمة شجرة متراكمة الأغصان والأوراق يصلح النوم تحتها ، ولكن صاحبنا لم يجد في النوم راحة لأنه رأى رجلا يقصد مكانه فكره ذلك، بعد كل ما اعتد به من سلاح، وكل ما واجهه من صعوبات في استقصاء الناقة منفردا، وموضع استدلالنا بذلك قوله: ( فكرهت انعياجه )، وقوله: ( فاستعذت بالله ). وهي حالة نفسية غريبة نجدها من شخص يرتحل بالصحراء ليلا، فلا يخاف الوحش، ولكنه يخاف إنسانا مثله. ووصفنا الحالة النفسية بالغريبة لأنه خاف هذا الرجل وقت النهار، ولكننا نستدل من هذا أن الخلاء يلقي رهبة في نفوس المرتحلين ويسلبهم الشعور بالأمان، حتى تصبح ملاقاة الوحش أهون عليهم من ملاقاة الإنسان.
ولكن خوف الحارث بن همام تبدد عندما بدت له هيئة السروجي، فنام ولم يستيقظ إلا والليل قد حلّ، وكان السروجي قد رحل، آخذا معه فرس الحارث بن همام، فقضى ليلته راجلا إلى أن جاء الصباح، فمرّ قريبا منه رجل يركب الناقة المنشودة. فقال له: " أنا صاحبها ومضلها، ولي رسلها ونسلها... فأخذ يلدغ ويَصئِي، ويتّقح ولا يستحيي. وبينا هو ينزو ويلين، ويستأسد ويستكين، إذ غشينا أبو زيد لابسا جلد النمر، وهاجما هجوم السيل المنهمر. " ([12]) فأخبره الحارث بن همام خبر الرجل " فنظر إليه نظر ليث العريسة، إلى الفريسة، ثم أشرع قبله الرمح، وأقسم له بمن أنار الصبح، لئن لم ينج منجى الذباب، ويرض من الغنيمة بالإياب، ليوردنّ سنانه وريده، وليفجعن به وليده ووريده. فنبذ زمام الناقة وحاص، وأفلت له حُصَاص. فقال أبو زيد: تسلمها وتسنمها، فإنها إحدى الحسنيين، وويل أهون من ويلين. قال الحارث بن همام: فحرت بين لوم أبي زيد وشكره. " ([13])

فالمرتحل في الصحراء يصالح ذاته ليواجه الخلاء وخباياه؛ فتطفو أغوار مشاعره معبرة عن رد فعل منعكس أمام أي حدث يجابهه، فتظهر تصرفات للإنسان لم يكن يدركها من قبل. وهذا تعليل الصراع وثورة المشاعر بين الشخوص في النص. أما محور الصراع فهو الحارث بن همام الذي تصارع مع الرجل الذي سرق ناقته، وتصارع مع السروجي الذي سرق فرسه، فمشاعر الكره والبغض تحولت من كره الرجل الذي يركب الناقة، وحب استرداد الضالة إلى مشاعر الخوف عند رؤية السروجي وهو يحاول إنقاذه، لقوله: " فخفت والله أن يكون يومه كأمسه، وبدره مثل شمسه، فألحق بالقَارِظَيْنِ، وأصير خبرا بعد عين."([14]) ، لكن مشاعر الخوف هذه سرعان ما تحولت إلى ثقة واطمئنان بعدما قال له السروجي: " وافيتك لأخبر كُنهَ حالك، وأكون يمينا لشمالك. فسكن عند ذلك جَاشِي، وانجاب استيحاشي"([15]) .

وما يثير اهتماننا في هذا النص كلمة الحارث بن همام: ( وانجاب استيحاشي )؛ فهو في صحراء مقفرة يواجه رجلا اتخذ من الناقة الضالة مطية له، فهو وحيد يقابل رجلا وحيدا ضمن خلاء الصحراء، وهذا هو موضع الاستيحاش الذي ذكره الحارث بن همام، وشعر بالألفة عند مساندة السروجي له، فانتقل ما يكنّه من مشاعر خوف وقلق إلى الرجل الذي أصبح وحيدا وهو يقابل اثنين يريدان به شرا؛ فترك زمام الناقة وفرّ هاربا منهما.

ووصف المكان يختلف وفقا لحالة الشخص النفسية والشعورية ؛ وتبعا لذلك فقد تنوعت صور المكان في مقامات الهمذاني والحريري. أما أنواع الأماكن([16]) التي شكلت الخلاء في الأنماط السردية الحكائية، فنجمل أبرزها فيما يلي:

1ـ المكان الأنيس:

أن يكون المكان الخلاء أنيسا هو نوع من المفارقة، إذ لا يستساغ كون المكان الخلاء بأبعاده الموحشة أنيسا، ولكن الهمذاني والحريري في كثير من المقامات صورا أبطال حكاياتهم يتمتعون بالأنس إبّان وجودهم في الخلاء؛ فذلك الحارث بن همام يقول: " ترامت بي مرامي النوى، ومساري الهوى، إلى أن صرت ابن كل تربة، وأخا كل غربة. إلا أني لم أكن أقطع واديا، ولا أشهد ناديا، إلا لاقتباس الأدب المسلي عن الأشجان، المُغْلِي قيمة الإنسان، حتى عرفت لي هذه الشنشنة" ([17])، فقد ألِف الحارث بن همام الخلاء وأصبح الترحال متعة، ولكن هذه المتعة هادفة وغرضها تحصيل العلم، ودون هذه الغاية كان سيُعدّ الحارث بن همام مجنونا لحب الخلاء دون مبرر.

والمكان الموحش قد يصبح مقبولا ومحببا إذا كان للإنسان غاية، وخير مثال على ذلك قول الحارث بن همام في المقامة الرملية: صادفت ركابا تعد للسرى، " ورحالا تشد إلى أم القرى، فعصفت بي ريح الغرام، واهتاج لي شوق إلى البيت الحرام، ونبذت عُلَقِي وعلاقتي. " ([18])، فالارتحال طلبا لعبادة الله تعالى خير غاية لترك العمل والأمور الشاغلة. ونلحظ أن الحارث بن همام قد هاجه الشوق إلى ذلك عند رؤيته جماعة يستعدون للرحيل إلى البيت الحرام؛ فوجد المؤنس في السفر، ووجد غاية جليلة من سفره، فازداد الارتحال في المكان ألفة بوجود الناس فيه وبتخيرهم، إذ يقول: " ثم انتظمت مع رفقة كنجوم الليل، لهم في السير جرية السيل، وإلى الخير جري الخيل " ([19]) .

وذلك عيسى بن هشام في المقامة الغيلانية يسمع حكاية من رجل كثير الحفظ والرواية هو عصمة بن بدر الفزاري يقول فيها: " بينما أنا أسير في بلاد تميم مرتحلا نجيبة وقائدا جنيبة. عنّ لي راكب على أوراق جعد اللغام فحاذاني حتى إذا صك الشبح بالشبح رفع صوته بـ " السلام عليك " . فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. من الراكب الجهير الكلام، المحيي بتحية الإسلام؟ فقال: أنا غيلان بن عقبة. فقلت: مرحبا بالكريم حسبه. الشهير نسبه. السائر منطقه. فقال: رحب واديك. وعز ناديك. فمن أنت؟ قلت: عصمة بن بدر الفزاري. قال: حياك الله نعم الصديق. والصاحب والرفيق. وسرنا فلما هجرنا قال: ألا نغور يا عصمة فقد صهرتنا الشمس؟ فقلت: أنت وذاك. فملنا إلى شجرات آلاء كأنهن عذارى متبرجات قد نشرن غدائرهن. لأثلات تناوحهن. فحططنا رحلنا ونلنا من الطعام، وكان ذو الرمة زهيد الأكل وصلينا بعد، وآل كل واحد منا إلى ظل أثلة يريد القائلة. " ([20])

فيبدو جليا من النص أن هذا الشخص يسير في الخلاء وهو يشعر بالأمان، وذلك لعدة أسباب؛ فهو يسير في بلاد تميم، وما ذكره الاسم إلا دلالة على أمن هذه المنطقة المعروفة، فتخلو من قطاع الطرق ومن الأمور التي يخشاها المرتحل وحيدا، ثم هو يتخذ رفيقا له في سفره؛ فأصبح المكان أكثر أمنا. ونلاحظ أن لقاء الاثنان في الصحراء تمّ عن طريق تناقل رسالة مرمزة بينهما، وذلك عند قوله: (رفع صوته بالسلام عليكم )، فكلمة ( رفع ) رسالة تدل على رغبة الرجل في الرفقة، وإلا لأخفى نفسه بعيدا، أو لم يكن ليسلّم. وأما جملة ( السلام عليكم ) استكمال للرسالة دلالة القدوم بسلام، ورغبة في إكمال الدرب دون متاعب أو طمع في المرتحل. وبما أن الرسالة الدلالية بين مرسل ومستقبل، وقد توضح قصد المرسل، فكان لا بدّ من الردّ سلبا أو إيجابا، ولكن الإيجاب قد تمّ اختياره بقوله: (حياك الله نعم الصديق. والصاحب والرفيق ).

وما نلمحه في النص أنه أوجد طبيعة خاصة للمكان الأنيس تتمثل فيما يلي: أمن المنطقة، واتخاذ الرفقة في الرحلة، وحسن الطقس، وطبيعة المكان. فيبدأ الهمذاني حكايته بأدلة تشير إلى أمن المكان، وأن المنطقة محمية بوجود تميم. ويتخذ رفيقا يصحر معه في وقت ليس بذي حرارة عالية. ولذلك عندما اشتدت الحرارة عليهم سُلب المكان أحد شروط أنسه؛ فرفض المرتحلان الاستمرار، لقوله: (فلما هجرنا. قال: ألا نغور... فقد صهرتنا الشمس ؟ ) مما دفع المرتحلان إلى البحث عن مكان آخر تكتمل فيه شروط أنس المكان؛ فقد نزلا في منطقة حسنة المنظر ظليلة الأشجار؛ فهو مكان آمن ذو طبيعة ترتاح لها النفس، ينزل فيه المرتحل مع رفيقه ليستظلا بظل الأشجار بعد كدّهما من لهب الصحراء. ويزداد حسن المستقر في هذا المكان بعد تناول الطعام، وأداء الصلاة التي لها الأثر النفسي الإيجابي عند المرتحلين؛ فهما انتقلا من مكان أنيس يحبه العرب إلى مكان أكثر ألفة وسكينة فتطمئن له النفس، وهذا الاطمئنان انعكس فعلا عند ذهابهما إلى النوم الذي يمثل الحالة الأكثر هدوءا وأمنا للإنسان إذ إن الإنسان الذي به خوف أو قلق لا يتمكن من النوم.


2ـ المكان المخيف:

لا يشترط بالمكان أن يكون مخيفا بطبيعته، بل قد يكون هناك مسببات للخوف، فالخوف ـ مثلا ـ ملازم للإنسان عند إحساسه بالخطر. ومثال ذلك ما ورد في المقامة الإبليسية عندما قال عيسى بن هشام: " أضللت إبلا لي فخرجت في طلبها فحللت بواد خضر. فإذا أنهار مُصرَّدة وأشجار باسقة وأثمار يانعة وأزهار وأنماط مبسوطة."([21])؛ فوصف المكان بهذه الصورة التفصيلية الجمالية دال على راحة نفسية عيسى بن هشام لأن الوقت أتيح له لينظر في أنحاء المكان ودقائقه؛ فجاء وصفه تفصيليا لطبيعة هذا المكان التي يرتاح الإنسان إليها ويطمئن. ولكن عيسى بن هشام يتجه بنا اتجاها مغايرا عندما يقول: " وإذا شيخ جالس. فراعني منه ما يروع الوحيد من مثله." ([22])؛ فالطبيعة الوادعة لهذا المكان تلاشت عند رؤية عيسى بن هشام لهذا الشيخ، وانصرف تركيز عيسى بن هشام عن وصف المكان لأن مثيرا قويا قد أثاره، فتصارعت الأسئلة في عقل عيسى بن هشام عن هوية هذا الرجل، وشأن عمله في هذا المكان. فليس الشيخ من أثار خوف عيسى بن هشام لأن النص لا يحوي قسما سرديا يصف تسلح الشيخ، لكن عنصر المفاجأة هو الذي أثار خوفه بما يسمى مفارقة كسر التوقع ذلك أنه لم يتوقع أن يرى إنسا في هذا الخلاء. والشيخ يلمح سريعا اضطراب عيسى بن هشام النفسي وخوفه؛ فقال له دون تردد: " لا بأس عليك. فسلمتُ عليه وأمرني بالجلوس فامتثلت. وسألني عن حالي فأخبرت. فقال لي: أصبت دالتك. ووجدت ضالتك." ([23])

وما نلحظه في هذا النص النقلات السردية السريعة التي يستخدمها الهمذاني في مقامته إذ لا يسير سرد الحكاية بنمط ثابت تقليدي؛ فعيسى بن هشام أضل إبلا فبحث حتى وصل إلى واد أخضر، وبطريقة غريبة يجد شيخا يجلس منتظرا وسط الوادي، وهنا لابد وأن تفتح آفاق التساؤلات أمام عيسى بن هشام: من هذا الشيخ ؟ وما الذي يفعله في وسط هذا الوادي الخالي؟ . ولكن حديثه مع الشيخ ينقل النص نقلة سردية مغايرة للتسلسل المنطقي إذ إن هذا الشيخ يعرف مكان الإبل. وهنا يطرح المتلقي سؤالا عن ماهية العلاقة بين خروج عيسى بن هشام باحثا عن الإبل ووجود الشيخ وسط الوادي ؟ وهنا لا بدّ من تتبع الأحداث حتى نصل إلى هذه العلاقة.

فتنصّ الأحداث على أن الشيخ طلب من عيسى بن هشام أن يروي له شعرا، فتبادلا رواية الشعر إلى أن قال له عيسى بن هشام: " قبَّحَكَ الله من شيخ. لا أدري أبانتِحالِكَ شعر جرير أنت أسخف، أم بطربك من شعر أبي نواس وهو فويسق عَيَّار" ([24])؛ فيقول له الشيخ: دعك من هذا، ويبعثه إلى رجل ليدله على مكان إبله. ومن ثم يفسر الشيخ حقيقة أمره إذ يقول: " وكنت أكتمك حديثي. وأعيش معك في رخاء لكنك أبيْت فخذ الآن، فما أحد من الشعراء إلا ومعه معين منا، وأنا أمليت على جرير هذه القصيدة، وأنا الشيخ أبو مرّة " ([25])

والمقامة في شقها هذا تبدو غرائبية لقول الشيخ: أنا أبو مرّة ـ وهو اسم من أسماء الشيطان ـ ، وهنا يبرز دور المكان في صنع غرائبية الموقف؛ فوجود الشيخ في هذا الخلاء وحيدا، كان له دوره في غرائبية الأحداث، وجعلنا نقبل بفكرة مفادها: إن الشيخ هو الشيطان. ولكن تبقى غرائبية هذا الموقف قائمة إذ كيف أصبح عيسى بن هشام صديقا للشيطان، وكيف يستوي لدينا موقف الشيطان ـ بطبيعته الجهنمية ـ وهو يساعد عيسى بن هشام في إيجاد إبله؛ فهذه الأحداث في هذا القسم لا نقبلها إلا على مستوى التشظي، والعبث في عقل المتلقي.

وبعد قبول هذه الأحداث؛ فإن الهمذاني يلجأ إلى اقناعنا بها عن طريق تأكيد صحتها من خلال قوله: " ومضيت لوجهي فلقيت رجلا في يده مِذَبَّة. فقلت: هذا والله صاحبي. وقلت له ما سمعت. فناولني مسرجة وأومأ إلى غار في الجبل مظلم فقال: دونك الغار. ومعك النار. قال: فدخلته فإذا أنا بإبلي قد أخذت سمتها. فلويت وجوهها ورددتها. " ([26]) وهنا أيضا يدعنا الهمذاني أمام غموض آخر هو شخصية الرجل، وهل هو شيطان تابع لإبليس ؟ وإن كان كذلك فلم قام بمساعدة عيسى بن هشام، أهو ولاء لقائده ؟

ولا ينهي الهمذاني مقامته الإبليسية دون أن يوظف حيرة المتلقي في تشكيل المقامة، ذلك أنه يولّد حبكة حكائية جديدة بعد أن كانت المقامة تتجه إلى النهاية، وهذه الحبكة تتشكل عند ظهور الإسكندري في ذلك الغار المظلم. وهنا يتخذ المكان دورا رئيسا في تشكيل الحبكة؛ فوجود الإسكندري في الغار الذي يوجد فيه عيسى بن هشام تحديدا هو الذي صنع تشويقا في الحبكة الجديدة ليكون الجواب على لسان الإسكندري عندما أجاب عيسى بن هشام، " فأومأ إلى عمامته وقال: هذه ثمرة بره. فقلت: يا أبا الفتح شحذت على إبليس إنك لشحاذ " ([27]).

ويستغل الهمذاني ظهور الإسكندري في الغار ليصنع مفارقة مضمونية، ذلك أن قوله: ( هذه ثمرة بره ) تدل على ملاقاته إبليس وأن الأحداث التي مر بها عيسى بن هشام كان الإسكندري قد سبقه إليها. وموضع المفارقة أن إبليس بطبيعته الشيطانية التي لا يتأتى منها إلا الشر استطاع الإسكندري خداعه، بل إنه أخذ منه أثرا ودليلا هو العمامة؛ فصانع المفارقة هو الإسكندري وضحيتها إبليس( الشيخ )، وشاهد المفارقة هو عيسى بن هشام. ذلك أننا وقعنا ضحية الهمذاني في هذه المقامة، إذ لم يعد الموضوع موضوع ضياع إبل عيسى بن هشام بل إن وجود عيسى بن هشام في هذه المقامة ـ فيما أرى ـ هو أسلوب فني استخدمه الهمذاني ليكون شاهد إثبات على قدرة الإسكندري وكديته التي طالت إبليس.

واعتبار المكان مخيفا منوط بالحالة الشعورية للشخصية وتقلباتها؛ فشعور شخصية المقامة هو الذي يحدد النظرة إلى طبيعة المكان فيها، ذلك أن الكاتب ينقل لنا وصف المكان من خلال عيني الشخصية التي تتحرك متنقلة فيه؛ ومن مثال قول الحارث بن همام في المقامة البكرية: " هفا بي البين المُطَوِّحُ، والسير المبرح، إلى أرض يضل بها الخِرِّيتُ، وتفرق فيها المَصَالِيتُ " ([28]) فوصفُ هذا المكان هو أثر للحالة النفسية التي يمر بها الحارث بن همام، وسبب هذا الوصف الضياع، ذلك أن الحارث بن همام ضلّ طريقه وهو وحيد؛ فألقى المكان انعكاسات نفسية سلبية على الشخصية الوحيدة التي تتحرك في هذا المكان، لذلك قال عن هذا المكان: (إن الدليل الحاذق يضيع في مثل هذا المكان).

وما كلام الحارث بن همام إلا تسرية لنفسه، وتخفيف لوطأة المكان عليه. لذلك فإنه يقول: " فوجدت ما يجد الحائر الوحيد، ورأيت ما كنت منه أحيد. إلا أني شجعت قلبي المَزؤُودَ، ونسأت نضوي المجهود، وسرت سير الضارب بقدحين، المستسلم للحين. ولم أزل بين وخذ وذَمِيل، وإجازة ميل بعد ميل، إلى أن كادت الشمس تجب، والضياء يحتجب. فارتعت لإظلال الظلام، واقتحام جيش حام. ولم أدر أأكفت الذيل وأرتبط، أم أعتمد الليل وأختبط ؟ " ([29])؛ فقد استسلم الحارث بن همام للضياع والهلاك الذي سببه الوجود في خلاء مكتنف المجاهل. ويزداد الحارث بن همام خوفا عند حلول الظلام، وكأن الظلام في النص أصبح رمزا للمجهول والهلاك؛ فتجمع على الحارث بن همام الضياع في الأرض الخلاء، وظلمة الليل، لذلك احتار الحارث ما بين المبيت والارتحال في غياهب الظلام. وفي ظل هذه العتمة السردية يتجلى الفرج بنص السارد: " وبينا أنا أقلب العزم" ([30]) فتوحي هذه الجملة السردية بإشراقة نصية يبثها المؤلف إنقاذا لرواي مقامته، فيرى الحارث طيف جمل مستتر بجبل، وصاحبه ينام طلبا للراحة، فلم يكن للحارث بدّ من طلب المساعدة، ولذلك يقول: " فجلست عند راسه، حتى هبّ من نعاسه. فلما ازدهر سراجاه، وأحس بمن فاجاه، نفر كما ينفر المريب، وقال: أخوك أم الذيب ؟ فقلت: بل خابط ليل ضلّ المسلك، فأضئ أقدح لك. فقال: ليسر عنك همّك، فربّ أخ لك لم تلده أمك. فانسرى عند ذلك إشفافي، وسرى الوسن إلى آماقي. " ([31]) .

وهنا يبدأ المكان يتشكل وفق منظور الشخصيتين؛ فأصبح المكان أنيسا للحارث بن همام لأنه وجد الرفقة والأمن وذلك يفسر قوله: ( وسرى الوسن إلى آماقي ) لأنه لم يكن قادرا على النوم بسبب خوفه وقلقه، أما عند سكينته وراحته فقد طلبه النوم فلبّى. وأما الشخص النائم فإن المكان وفقا لرؤيته غدا مخيفا لأنه لم يكن نائما ومستغرقا في النوم بل كان متوجسا من خطر قد يصيب الوحيد في الصحراء، وزاد خوفه عند رؤية رجل مجهول الهوية والنية يقف عند رأسه، فنفر( كما ينفر المريب )، وأطلق رسالة نصها: ( أخوك أم الذيب؟) مقدما لفظة (أخوك ). وعندما علم بأمر الحارث اطمأنّ الاثنان، استدلالا بقوله: ( ربّ أخ لك لم تلده أمك ) لتكون هذه الجملة إجابة عن كثير من الأسئلة التي تجول في خاطريهما.


3ـ المكان المعادي:

ومن أمثلة هذا المكان الحكاية التي يرويها عيسى بن هشام في المقامة الأسدية عند سفره إلى حمص في صحبة هم كنجوم الليل، إذ يقول عيسى بن هشام عندما كدّهم التعب: "تاح لنا واد في سفح جبل ذي ألاء وَأثْل. كالعذارى يسرحن الضفائر. وينشرن الغدائر. ومالت الهاجرة بنا إليها ونزلنا نغوّر ونغُور، وربطنا الأفراس بالأمْرَاسِ وملنا مع النعاس. فما راعنا إلا صهيل الخيل ... ثم اضطربت الخيل فأرسلت الأبوال وقطعت الحبال. وأخذت نحو الجبال. وطار كل واحد منا إلى سلاحه فإذا السبع في فروة الموت. قد طلع من غابه. منتفخا في إهابه. كاشرا عن أنيابه. "([32]) فأحداث هذا القسم من الحكاية تبدو مسالمة إذ بدأت بمسير المرتحلين في الصحراء بعد تخير الرفقاء، وعند اشتداد الحرارة عليهم وتخيرهم المكان نزلوا للراحة. وهنا يبدأ المكان بتغيير طبيعته مما أدى إلى تغيير مسار الأحداث؛ فيهجم عليهم أسد وهم في غفلة لأن طبيعة المكان لم تكن توحي بوجود خطر مماثل. وهنا يفرض المكان بطبيعته المعادية التعاون لمجابهة هذا الخطر؛ فتصدى الرفقاء للأسد، فقتل واحد منهم قبل أن يقتلوه، ثم لحقوا بالخيول وأمسكوا ما لم يهرب منها، ثم عادوا وجهزوا رفيقهم للدفن. ([33])

ولم يقتصر هذا المكان على هجوم الأسد عليهم، بل إنهم تعرضوا لخداع قاطع طريق لقول عيسى بن هشام: " وعدنا إلى الفلاة. وهبطنا أرضها وسرنا حتى إذا ضمرت المزاد. ونفد الزاد أو كاد يدركه النفاد. ولم نملك الذهاب ولا الرجوع. وخفنا القاتلين: الظمأ والجوع. عنّ لنا فارس فصمدنا صمده ... وعمدني من بين الجماعة. فقبّل ركابي. وتحرّم بجنابي. ونظرت فإذا هو وجه يبرق برق العارض المتهلل. وقوام متى ما ترق العين فيه تسهل، وعارض قد اخضر. وشارب قد طرّ. وساعد ملآن. وقضيب ريان. ونجار تركي. وزي ملكي" ([34]) .

فتظهر من جديد وطأة المكان على أفراد الحكاية إذ أضناهم التعب بعد قتال الأسد، وهم في حالة شعورية يمكن وصفها بالكآبة والحزن بعد رؤية رفيقهم يقتل على مرأى من أعينهم، بل وتزداد الأمور سوءا بهروب عدد من الخيول ونفاد الماء والطعام منهم، وهم في منطقة بعيدة عن مقصد ارتحالهم. فتصل بنا الأحداث في النص إلى مرحلة نقول فيها: إنهم هالكون لا محالة. ولكن الهمذاني يوفر لهم مخرجا قريبا عندما يصنع حبكة جديدة في النص بظهور رجل يقصدهم. ونلمح في النص دقة وصف عيسى بن هشام لهذا الرجل؛ فهو يركب فرسا أصيلا، وقد نبت شاربه حديثا، وتظهر عليه ملامح القوة، وتوحي تعابير وجهه وملابسه أنه رجل تركي ثري.

إذن، فإن مظهر هذا الرجل وصفاته التي ذكرت في النص دفعت القوم لأن يستأمنوه في مرتحلهم، ذلك أنه قصد عيسى بن هشام وقال له: " أنا اليوم عبدك. ومالي مالك " ([35])؛ فهنأ القوم عيسى بن هشام بعدما فتنتهم ألحاظه وألفاظه. ثم دلّهم بعد ذلك إلى سفح جبل يوجد فيه ماء حتى يأخذوا قيلولة ويتزودوا بالماء، فنزل الرجل التركي ونزع عنه ثيابه، فتأكد القوم من رقة ملامح جسده وصفائه مما يدل على خدمته للملوك وصدق فراره منهم. ([36]) ثم بدأ الرجل بخدمتهم فحطّ السروج عن الأفراس ووضع لها الحشائش لتأكل، وجهز المكان ففرشه لهم ليناموا مما دعاهم للقول: " يا فتى ما ألطفك في الخدمة. وأحسنك في الجملة فالويل لمن فارقته. وطوبى لمن رافقته. فكيف شكر الله على النعمة بك؟ فقال: ما سترونه مني أكثر. أتعجبكم خفتي في الخدمة. وحسني في الجملة. فكيف لو رأيتموني في الرفقة. أريكم من حذقي طرقا. " ([37]) فأطلق سهما في السماء وأتبعه بآخر فشقه، ثم عمد إلى كنانة عيسى بن هشام فأخذها وإلى فرسه فعلاه، ورمى اثنين بالسهام فقتلهما، وطلب من البقية أن يربط كل واحد منهم يد رفيقه، فلم يجدوا مهربا من فعل ما يريد؛ إذ هو راكب بيده سلاح والقوم مترجلون بعيدون عن أمتعتهم وأسلحتهم. وبقي عيسى بن هشام وحيدا دون أن يربط؛ فأمره بنزع ثيابه ففعل، ثم نزل عن فرسه وبدأ بصفعهم ونزع ثيابهم عنهم، ([38]) حتى وصل إلى عيسى بن هشام الذي يقول: " وصار إلي وعلي خفان جديدان. فقال: اخلعهما لا أم لك. فقلت: هذا خف لبسته رطبا فليس يمكنني نزعه. فقال: علي خلعه. ثم دنا إلي لينزع الخف ومددت يدي إلى سكين كان معي في الخف وهو في شغله فأثبته في بطنه... فما زاد على فم فغره " ([39]) .

فقد اتخذ عيسى بن هشام احتياطه كاملا أثناء سفره إذ تخير رفقة طيبة، وحمل معه سلاحه، وأخفى في خفه سلاحا تحسبا للطارئ، فلم يتوقع أن المكان سيكون ذا سطوة قاسية عليه وعلى رفقائه، فاعتدى عليهم الأسد، وخدعهم غلام اتخذ الحيلة منهجا؛ فهو فرد وهم جماعة لذا تركهم في شغل من أمرهم ثم أظهر لهم عداوته. ومرتكز الحيلة التي استخدمها هو استغلاله طمع الإنسان إذ وضع نفسه عبدا بين يدي عيسى بن هشام فصدق كلامه. وهنا تظهر أسباب خوف المرتحل من الرفيق الذي يظهر فجأة في الخلاء. ووفق المنظور الحكائي لا يمكن أن يوجد المكان منفصلا عن الزمان والشخوص والأحداث؛ فتتصارع معا في مساحة مكانية ليكون لها الدور الفاعل في تشكيل العقدة وصولا إلى الحل.



4ـ المكان المأوى:

هروبا من سلطة المكان وسطوة الخوف التي توجد في النفس البشرية، فإن الإنسان يلجأ إلى مكان حميم يشعره بالأمان، فيكون هذا المكان ملاذا يقصده المرء حتى يشحذ همته من جديد. وأبرز مكان يمكن أن يلتجئ إليه الشخص في الصحراء ـ باعتبارها خلاء ـ هي الخيمة؛ ومثال ذلك قول عيسى بن هشام في المقامة الأسودية: " كنت أتهم بمال أصبته، فهمت على وجهي هاربا حتى أتيت البادية فأدتني الهيمة. إلى ظل خيمة."([40]) ويظهر مباشرة دفء هذا المكان، عند قول أهل الخيمة لعيسى بن هشام: " بيت الأمن نزلت. وأرض القرى حللت " ([41])، وينتهي غرض الملتجئ إلى هذا المكان عند انتهاء غايته، وذلك دلالة قوله: " ثم عشنا زمانا في ذلك الجناب حتى أمنّا " ([42]) .

وفي المقامة الرقطاء يهرب الحارث بن همام من الأهواز لما فيها من شدة الفقر والظلم وسوء الحال؛ فيقول: " حتى إذا سرت منها مرحلتين، وبعدت سرى ليلتين، تراءت لي خيمة مضروبة، ونار مشبوبة. فقلت: آتيهما لعلي أنقع صدى، أو أجد على النار هدى. " ([43])؛ فقرن الحارث بن همام بين الخيمة والنار الدالة على كرم أهل هذه الخيمة وإكرامهم الضيف، ولذلك كان رجاؤه الحصول على الماء أو مرشدا يهديه الطريق. ويمثل لنا الحارث بن همام عذوبة هذا المكان بقوله: " فلما انتهيت إلى ظل الخيمة رأيت غلمة روقة، وشارة مرموقة، وشيخا عليه بزة سنية، ولديه فاكهة جنية، فحييته... وقال: ألا تجلس إلى من تروق فاكهته، وتشوق مفاكهته ؟ فجلست لاغتنام محاضرته لا لالتهام ما بحضرته! " ([44]). فعندما التجأ الحارث بن همام إلى هذا المكان ارتاح إليه؛ فوجد غلمة بأجمل هيئة، ووجد شيخا يلبس الثياب الحسنة الرفيعة التي تدل على مكانته، ووجد ما يشتهيه المرتحل: الجلسة الطيبة والفاكهة الشهية.

والأمر البيّن أن الذي يسير في الصحراء مدة أيام ينقص عنده الزاد والماء، ولذلك فإن طلب الراحة والزاد يكون عند رؤية المسافر للخيمة فيشعر بالألفة والطمأنينة لوجودها، فذلك عيسى بن هشام يقول في المقامة النهيدية: " ملت مع نفر من أصحابي إلى فناء خيمة ألتمس القرى من أهلها فخرج إلينا رجل حُزُقََّة فقال: من أنتم ؟ فقلنا: أضياف لم يذوقوا منذ ثلاث عروقا " ([45])؛ فواضح أن عيسى ابن هشام وجماعته طلبوا هذه الخيمة لأنهم أرادوا الزاد، لكن الرجل بدأ يصف لهم أنواع الطعام ويقول لهم: أتشتهونها يا فتيان؟ فيقولون: إي والله نشتهيها. فيقهقه ويقول: وعمكم أيضا يشتهيها. ([46]) حتى نفد صبر الجماعة؛ فوثبوا إلى أسيافهم. وقالوا: ما يكفي ما بنا من الدقع حتى تسخر بنا، فأتتهم ابنته بطبق عليه جلفة. وحثالة ولوية. وأكرمت مثواهم. فانصرفوا لها حامدين. وله ذامين ([47]).
[1] بحراوي، حسن (1990): بنية الشكل الروائي، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت، ص 31.
[2] الحريري، المقامة الرملية، ص ص 490ـ 491. أستقري: أتتبع.
[3] الهمذاني، المقامة الملوكية، ص ص 257- 258
[4] الهمذاني، المقامة الصيمرية، ص241
[5] الحريري، المقامة التفليسية، ص 359
[6] الحريري، المقامة الدمياطية، ص ص 39ـ 40. غدافية: مظلمة.
[7] الحريري، المقامة الدمياطية، ص45
[8] الهمذاني، المقامة الشيرازية، ص193
[9] انظر: الهمذاني، المقامة الشيرازية، ص193
[10] الهمذاني، المقامة الفزارية، ص ص81 ـ 82
[11] الحريري، المقامة الوبرية، ص ص 271 ـ273. خطارا: كثير الإهتزاز. هيعل: أذن. هجير: وسط النهار. اللغوب: الإعياء.
[12] الحريري، المقامة الوبرية، ص 277
[13] المصدر نفسه، ص 278. حصاص: العدو.
[14] المصدر نفسه، ص 277. قارظين: رجلان يضرب بهما المثل عند عدم العودة.
[15] الحريري، المقامة الوبرية، ص 277 - 278. الجأش: روع القلب عند الفزع.
[16] لقد حدد شاكر النابلسي أنواعا متعددة من الأماكن، انظر: النابلسي، شاكر (1994) : جماليات المكان في الرواية العربية، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص ص 12 – 24.
[17] الحريري، المقامة النجرانية، ص 440. الشنشنة: العادة.
[18] الحريري، المقامة الرملية، ص 319. علقي: أشغالي.
[19] المصدر نفسه، ص ص 319 ـ 320
[20] الهمذاني، المقامة الغيلانية، ص ص 46 ـ 47
[21] الهمذاني،المقامة الإبليسية، ص 208
[22] المصدر نفسه، ص 208
[23] الهمذاني،المقامة الإبليسية، ص 208
[24] المصدر نفسه، ص 210
[25] المصدر نفسه، ص ص 211 - 212
[26] الهمذاني،المقامة الإبليسية، ص 212. مذبة: المروحة.
[27] المصدر نفسه، ص 212
[28] الحريري، المقامة البكرية، ص 451. المطوح: المبعد. الخريت: الدليل الحاذق. المصاليت: الشجاع.
[29] المصدر نفسه، ص ص 451 ـ 452. المزؤود: الخائف. ذميل: سير متوسط.
[30] الحريري، المقامة البكرية، ص 452
[31] المصدر نفسه، ص ص 452 ـ 453
[32] الهمذاني، المقامة الأسدية، ص ص 36 ـ 37. الأمراس: الحبال.
[33] انظر: المصدر نفسه، ص 38
[34] الهمذاني، المقامة الأسدية، ص ص39 ـ 40
[35] المصدر نفسه، ص 40
[36] المصدر نفسه، ص39
[37] الهمذاني، المقامة الأسدية، ص 41
[38] انظر: المصدر نفسه، ص ص 41 ـ 43
[39] المصدر نفسه، ص 43
[40] الهمذاني، المقامة الأسودية، ص 159
[41] المصدر نفسه، ص 160
[42] المصدر نفسه، ص 163
[43] الحريري، المقامة الرقطاء، ص ص 258 ـ 259
[44] المصدر نفسه، ص 259
[45] الهمذاني، المقامة النهيدية، ص 202
[46] انظر: المصدر نفسه، ص ص 202 ـ 206
[47] انظر: المصدر نفسه، ص ص 206 ـ 207