Friday, August 18, 2006

نماذج بخلاء الجاحظ-

نماذج البخلاء-

تتعدد أساليب دراسة نماذج البخلاء ـ وفقا للمنظور الأدبي ـ إذ تارة يمكن دراستها وفق أساليب البخل، وتارة وفق طبقاتهم، وتارة وفق النظرة الفنية للنص الأدبي، لكن لا يمكن لنا اتخاذ هذه الطرق في آن واحد ، و إلا عد ذلك عيبا في المنهج قد يؤدي إلى ضياع الفكرة أو اختلالها. و تبقى الفكرة السائدة أن لا بد للنموذج من أن يكون ملفتا للنظر بغض النظر عن طبيعته ، و مما يدلنا على تميز النموذج ، وشرط بروز شخصيته أن الكاتب " يعمد إلى إخراج ذلك في قالب يجمع فيه من الصفات التي تتوافر فيها أبعاد النماذج بصورة مميزة للشخصية حتى تشد إليها الانتباه ، و تجذب إليها الأنظار ، فهو يصور سلوكه مع نفسه ومع أسرته ، ومع المجتمع الذي يعيش بين جوانبه ، ومن خلال هذا السلوك نقف على دخائل قلبه " ([18] )

ومن أول المتنبهين لوجوب تميز النموذج وبروزه آرسطو في كتابه فن الشعر حيث يقول : " ولما كانت المأساة محاكاة لأناس أفضل منا ، فعلينا أن نسلك طريقة مهرة الرسامين : فهؤلاء حين يريدون تقديم صورة خاصة من الأصل ،يرسمون صورة أجمل من الأصل ، ولكنها تشابهه في جوهره ... وهكذا حال الشاعر - أو الكاتب- إذا حاكى أناسا فيهم نقيصة أو فضيلة فعليه أن يجعل منهم أناسا ملحوظين فيما هم عليه في الواقع " ([19]) ؛ فالشخصية (النموذج) التي يرسمها الكاتب الأديب لا تعد نقلا حرفيا لشخصية واقعية ، وإلا عُـد أدب الكاتب واقعا لا أدبا ، وأقرب مثال على ذلك الشخصيات التي يكتب عنها الجاحظ ؛ فكثير من الأحيان يحار المرء إن كان الجاحظ أضاف إلى الشخصية وقولها كلاما لم تقله تحقيقاً لغرضه ، أم هل نقل الشخصية كما هي لتمثل المجتمع ؟

إن شخصية أدبية فذة مثل الجاحظ يتوقع منها أي فن أدبي ؛ فقد يكون الجاحظ قد أضاف إلى شخصياته ،وقد يكون نقلها كما هي في أقوالها وحركاتها ، ولكنني أجدني أميَـل إلى أن الجاحظ هو صانع المفارقة، يستغل الشخصية – تماما – لتؤدي الغرض الذي يريد ،وحتى يصل إلى هذا الغرض فهو يصنع من هذه الشخصية ما يريد أن تقوم به ، و لو سلمنا أن الجاحظ ينقل الشخصية من الواقع كما هي يبقى أن الجاحظ الأديب لا بد له من التلاعب بهذه الشخصية سواء بتحريكها أو بإضافة الإشارات و النظرات إليها حتى يميز كتابه بطابع الأدب، فلا مندوحة أن أدب الجاحظ يمثل زمنه ، وأن شخصياته التي يأتي بها تمثل أهل زمنه.

قبل البدء بتحليل نماذج البخلاء في كتاب ( بخلاء الجاحظ ) نجد من الضرورة - بدءاً- أن نشير إلى طبيعة نموذج البخيل الموجودة في الكتاب، إذ نجد الجاحظ يتحدث عن النموذج الفردي كالمروزي و البصري و البغدادي ، و تحدث عن النموذج الطبقي الذي يصور طبقة خاصة من الناس كطبقة المسجديين أو الكرخيين ، غير أن السمة المميزة لنماذج بخلاء الجاحظ أن كل شخصية يستخدمها الجاحظ قد تمثل نموذجاً مستقلاً منفرداً ؛ " فظاهرة التخصيص و الفردية واضحة فيها ، فهو يدخل على بخلائه من كل باب ليُصور لنا كل بخيل على حدة ، و يخلع على هذا من المشاهد و الملامح غير ما نجد عند الآخر ، ففي قصص المسجديين نجد صورة مريم الصناع ، غير صورة صاحب النخالة ، كما نجد صورة زبيدة بن حميد ، غير صورة أبي محمد الخزامي "([20]).

وعندما تحدث الجاحظ عن البخلاء فإنه تحدث عن جوانب متعددة منها :

¨ تصوير حال المقتصدين الضاربين إلى الادخار في النفقة المقترين على أنفسهم وعلى ذويهم ، حيث يبرز في هذه الحكايات أسلوب التنفير من الإسراف والتبذير ، وأن الادخار هو العقل بعينه ، والتدبير هو عماد الحياة المتزنة . ([21])

ونجد الجاحظ في هذا الجانب يصف حال المقتصدين ، ويأتي بأدلتهم ، وبراهينهم التي غالباً ما يميزها الجانب المنطقي ، واستخدام علم الكلام ، والاستدلال بالقرآن الكريم ، والحديث الشريف . فنحس أن الجاحظ يقف مع هذه الشخصية ويدافع عنها ويحابي لها – مع أنه يريد أن يذمها ويوقع بها- وما ذاك من الجاحظ إلا جانب من المفارقة اللاذعة ؛ فالمتوقع من أي كاتب أن يهاجم هذه العادة السيئة ويبين أضرارها ومساوئها لكن الجاحظ ليس كأي كاتب ؛ فهو يريد من كتابته أن تكون أشد وقعاً وأعمق أثراً فيأتي بالنقيض أي الوقوف إلى جانب البخيل ، والاستدلال بالحجج والبراهين، فيفهم القارئ هذه المفارقة المبطنة، وأن لا حجة لهذا العمل ، وأنه كلما ازدادت قوة الحجة انقلب السحر على الساحر وتصبح حجة البخيل دليلاً على بخله ، وكأن الجاحظ في هذا الجانب يقترب من أسلوب المدح الذي يراد به الذم.

¨ تصوير نفسية البخلاء من خلال تمثيل تحركاته ، وتصرفاته ، وإشارات يديه التي يقوم بها، والعلامات التي تبدو على وجهه ، وتصوير حالة القلق التي يبدو عليه خوف افتضاح أمر بخله ؛ ولهذا يقول الجاحظ : " ولا عجبي من مغلوب على عقله، مسخر لإظهار عيبه ،كعجبي ممن قد فطن لبخله ، وعرف إفراط شحه ، وهو في ذلك يجاهد نفسه ،ويغالب طبعه ، ولربما ظن أن قد فطن له ،وعرف ما عنده، فموه شيئا لا يقبل الرقع ، فلو أنه كما فطن لعيبه ، فطن لضعفه عن علاج نفسه"([22]).

¨ الكشف عن مثالب البخلاء الذين يطوون ضعفهم في قرارة أنفسهم ،ولكن لا يلبث اللاشعور أن يلفظها دون وعي منهم ويجعلها تطفو على السطح ([23]) ، وقد هتكت سترهم ، ونمت عن مرضهم " ودلت على حقائق المتوهمين – وطبائع النفس البشرية – وهتكت عن أستار الأدعياء ،وفرقت بين الحقيقة و الرياء ، وفصلت بين المقهور و المنزجر – في طوايا النفوس – والمطبوع المبتهل" ([24])


¨ تصوير صفات البخيل الإنسانية و الاجتماعية ، وتصوير السلالة أو الطبقة التي ينتمي إليها سواء كان مروزيا ، أو كرخيا ، أو كان من عامة الناس ، أو من سادتهم ،ويكثر في كتاب البخلاء " تصوير حالات الشره و النهم في الأكل وتبيان حال المكدين في كيفيه الحصول على المال كقصص الحارثي وهو رجل شره يحسن البحث عن بيوتات الناس ثم يتطفل عليها ليغير على محاسنها ، ويستلب أطايبها ، وكقصص خالد بن يزيد الذي استطاع أن يجمع ثروة طائلة وراء تسوله ،واتخاذ الكدية مهنة له . والكتاب من هذه الوجهة صورة للمطبخ وأدبه " ([25]).

¨ السخرية والمفارقة والإضحاك والتندر من شخصية البخيل ؛ فكتاب البخلاء لا يقتصر على أسلوب أدبي بعينه ، وإنما يتعدد محتواة الفني ،ويصارحنا بذلك الجاحظ عندما يقول: " أما ما سألت من احتجاج الأشحاء ونوادر البخلاء ، فسأوجدك ذلك قصصهم – إن شاء الله – مفرقاً وفي احتجاجهم مجملاً فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي دون ما انتهى إليّ من أخبارهم على وجهها ... ولك في هذا الكتاب ثلاث أشياء: تبين حجة طريفة ، أو تعرف حيلة لطيفة ، أو استفادة نادرة عجيبة. وأنت في ضحك منه إذا شئت وفي لهو إذا مللت الجد." ([26])

من خلال النص السابق يمكن أن نستبطن أهداف تأليف الكتاب وهي :
· تبيان حجة طريفة :
وهو ما يورده البخلاء من حجج وأدلة على بخلهم وعلى وجوب هذا البخل ، ولو لاحظنا في ثنايا هذا الكتاب لوجدنا الجاحظ يقف مع هذه الحجج ويحابي لها ، وكل اعتقادي أن الجاحظ صانع المفارقة خاف على قارئه أن يقع ضحية لمفارقة حجج البخيل فنبهه على ذلك ، ووجهه للمشاركة في تفصيل المفارقة تجاه البخيل. وكلام الجاحظ أعده –فيما أرى- إشارة إلى أن وقوفه مع حجج البخيل ما هو إلا نوع من زيادة التندر والسخرية من شخص البخيل.

· تعرف حيلة لطيفة :
وهو ما يورده الجاحظ من حيل البخلاء واحتيالاتهم متمثلاً في حكايات متعددة ، وغالباً ما كانت تحتوي هذه الحكايات نوعاً من أنواع المفارقة كما سنتبين في المبحث الثالث من الفصل الثاني لهذا الكتاب .

· استفادة نادرة عجيبة :
لو أمعنا النظر في تشكيل العبارة لغويا لوجدناها تتشكل من بنيتين : (استفادة) و (نادرة عجيبة) . البنية الأولى من العبارة تؤكد عدم عبثية نصوص الكتاب ؛ فالكتاب ككل وضع للإفادة ، وعملية الضحك وتمضية الوقت من طرف هذا الكتاب هو أمر عرضي، وليس مقصوداً في ذاته ، وإنما التأمل الذهني – تأمل المفارقة- الذي يتأمله القارئ لحظة تفكره في حكايات الجاحظ وطرفه .
البنية الثانية تدل على نوع حكايات الجاحظ وقصصه وهي النوادر ، ولكن ليست أي نادرة ؛ فالنوادر في هذا الكتاب من نوع خاص لا يؤلفها إلا من كانت له دراية بالغة في الأدب ، يدلنا على ذلك لفظة (عجيبة) وما توحيه هذه الكلمة من الانتقال من عالم (الواقع) إلى عالم (الجاحظية) .



- نماذج البخلاء في حكايات بخلاء الجاحظ:

إن نماذج البخلاء – كما ذكر سابقاً - متعددة ، وهذا التعدد ناتج من طريقة التعامل مع النموذج ، فنموذج موضوع البخل له أقسام متعددة ، وكذلك الأمر في نموذج طبقات البخلاء العرقية ، ونموذج صفات البخلاء. وهذا يقودنا إلى تخصيص نوع محدد من النماذج لأن دراسة النماذج بالتقسيم السابق من شأنها أن يكون الخلط فيها كثيراً ، حاملة في ثناياها العديد من التكرار. وبما أننا نعرض في هذا الفصل للوحدة الأدبية القصيرة من حكايات البخلاء التي تم تعريفها " على أنها وحدة سردية مستقلة بذاتها تتضمن فعلا أو حادثا يبين أن شخصا ما أو أشخاصا ، أو جماعة أو طبقة من الناس يمتلكون صفات (البخيل) " ([27]) ؛ فإننا سنستكمل جانبا من المفارقة بدراسة نموذج صفات البخلاء ، أو صفات أفعالهم التي لها صلة – من قريب أو بعيد – بالمفارقة.

يمكن لنا أن نحدد نماذج البخلاء وفق صفات أفعالهم فيما يلي:

1.1 نموذج البخيل المقتر :

غالبا ما يقع هذا النموذج في حكايات تنبذ استخدام شيء ما بطريقة غير عادية ، أو بالغة العناية في محاولة لإنقاذ أو لتوفير هذا الشيء ([28])، و يتشكل هذا النموذج من خلال تكثيف المشاهد في أداء البخل ، وأداء حيل البخل ، من ذلك أن أناساً " من المراوزة إذا لبسوا الخفاف في الستة الأشهر التي لا ينزعون فيها خفافهم ، يمشون على صدور أقدامهم ثلاثة أشهر ، وعلى أعقاب أرجلهم ثلاثة أشهر حتى يكون كأنهم لم يلبسوا خفافهم إلا ثلاثة أشهر ، مخافة أن تنجرد نعال خفافهم أو تنقب."([29])

نلاحظ في النص السابق انعدام البنية المركزية للمفارقة أي أن المفارقة في هذه الحكاية لا تتشكل من جملة لغوية محددة إذ تتلاحق المفارقات في جمل متصلة ؛ فجاء في الجملة الأولى : ( في الستة الأشهر التي لا ينزعون فيها خفافهم ) أي أنهم ينزعون خفافهم نصف السنة ويلبسونها في النصف الآخر ، وهذا الحديث عن الخفاف يهدف إلى التركيز على مدة ارتداء الخفاف القصيرة وهي ستة أشهر ، فكانت هذه الجملة بمثابة التمهيد النفسي لما سيأتي من مفارقات في الجمل التالية ، إذ أنهم على قلة المدة التي يمشون فيها على خفافهم يمشون ثلاثة أشهر على أعقاب أرجلهم ، وثلاثة أخرى على صدور أقدامهم. ولو تأملنا قوة أثر هذه الجمل وجدنا الجملة الأولى لاذعة لتصل إلى الجملة الأخيرة فتكون الأكثر لذعاً. والهدف من هذا البناء تشكيل الصورة الأكثر سخرية وتهكما من شخص المروزيّ وهذا ما يعرف بالمفارقة الهزلية. إذ يتركز الحدث بتصوير مدى بخل المراوزة ، فجاوز بهم حد البخل إلى ابتداع طرق في توفير نعالهم المدة الأطول.

وكان عند رجل يوما رداء قد ارتداه مدة طويلة حتى بلي ، فاحتاج إلى جبة فاستغل الرداء في صناعة الجبة ، فهو يقول في استغلال الرداء : " جعلته – يعلم الله – ظهارة جبة محشوة، فلبستها ما شاء الله. ثم أخرجت ما كان فيها من الصحيح، فجعلته مخادّ ، وجعلت قطنها للقناديل. ثم جعلت ما دون خرق المخاد للقلانس، ثم عمدت إلى أصح ما بقي فبعته من أصحاب الصينيات والصلاحيات. وجعلت ما لا رقعة له ممحاة لي وللجارية، إذا نحن قضينا حاجة الرجال والنساء. وجعلت السقاطات وما قد صار كالخيوط وكالقطن المندوف صمائم لرءوس القواوير " ([30])
عندما سرد الجاحظ هذه الحكاية لم يتعمد لفظة معينة ينطلق منها في صنع المفارقة ، وإنما الجمل التي سردها عملت في المفارقة وأظهرتها لتكون الحكاية كاملة هي المفارقة. ولو بحثنا في العلاقة بين سارد الرواية وقائلها وجدنا رابطاً وثيقا بينهما يتمثل في تمكن الجاحظ من إنطاق الشخصية حتى تبرز النزعة عند القارئ برفض هذا النوع من الشح وتصحيحه ؛ فتقع هذه الشخصية الساذجة – الذي كان الجاحظ وراء حديثها – ضحية للمفارقة البنائية التي يُحتاج فيها إلى شخص يحرك الضحية حتى يتبين للقارئ أخطاء هذه الشخصية ويصححها.

وكان من أمر أبي سعيد المدائني أنه أمر خادمته بأن تجمع القاذورات من دور السكان فيفتشها ويجعل لكل شيء منها طريقه ، ، فالصوف يباع وخرق الثياب لأصحاب الصينيات والصلاحيات ، وما كان من قشور الرمان للصباغين والدباغين ، وما كان من نوى التمر لأصحاب الخشوف ، ونوى الخوخ لأصحاب الغرس ، والمسامير وقطع الحديد للحدادين ، وما كان من قطع عظام للوقود ... ([31]) ؛ فلا يجعل من الزبالة شيئاً إلا وتصرف به وكسب منه ، وهذا النوع من المفارقات يسمى المفارقة الهزلية التي تهدف للتهكم من طريقة تصرف هذا البخيل ، وأدائه لصفة البخل.

1.2 ـ نموذج البخيل الشحيح:

وهو البخيل الذي يرفض أن يذهب من ماله شيء لغيره، ومثل هذا التصرف يذكرنا بالغلام الذي جاء إلى خالد بن صفوان بطبق خوخ ؛ فلما وضعه بين يديه قال : " لولا أني أعلم أنك أكلت منه لأطعمتك واحدة " ([32]) ؛ فالهدف هنا النيل من هذا البخيل المقتصد وذلك من خلال المفارقة الهزلية التي تنال من شخص البخيل الذي حضرت نية إطعام الغلام عنده لكن الغلام قد كان فعل ، وما هذه إلا حجة ابتدعها البخيل كي لا يطعم الغلام ، فتأتي المفارقة الهزلية تبين أن نيته النقيض ، فلم تكن النية في إطعام الغلام موجودة بل التي كانت هي نية عدم إطعامه فابتدع هذه الحيلة اللطيفة.

وبلغ حد الشح عند بخيل آخر أن يبخل بفلس واحد كلما احتاج غلامه نفطاً؛ فكان يعطيه " ثلاثة أفلس ، والطسوج أربعة فلوس. ويقول : طسّوج بفضل وحبة تنقص وبينهما يرمي الرامي. وكان يقول لابنه : تعطي صاحب الحمام وصاحب المعبر لكل واحد منهما طسّوجا ، وهو إذا لم ير معك إلا ثلاثة أفلس لم يردك ! " ([33]) ، فكانت حجة بخل الرجل بالفلس ( ربع الطسوج ) أنه لا يعطى له اهتماماً ، وعند توفير فلس من كل طسوج يربح طسوجا ، الأمر الذي خيل للرجل أنه لا يبخل وأنه يقوم بعملية توفير من شأنها أن تزيده ربحا ، وهذا ما يسمى بمفارقة خداع النفس إذ رفض الرجل الاعتراف ببخله ، فخدع نفسه بأنه يوفر لكن الحقيقة أن توفيره هذا كان بخلاً.

نرى من خلال هذه النصوص مجتمعة أن محور حديثها حول العلاقة بين البخيل والبخيل وكيف أدى كل بخيل دوره ليكون مقتصداً لا مسرفاً حتى أصبح كل بخيل أذكى من الآخر في طريقة اقتصاده وبخله، بل إن أحدهم وصل به الأمر ليقتصد بالضحك ، فهو يقول: " إن الذي يمنعني من الضحك أن الإنسان أقرب ما يكون من البذل إذا ضحك وطابت نفسه " ([34]) ، وآخر تطيّب " فجعلوا في شاربه وسبلته غالية . فحكته شفته العليا فأدخل فحكها من باطن الشفة ، مخافة أن تأخذ إصبعه من الغالية شيئاً إذا حكها من فوق " ([35]) ؛ فكان المتوقع أن يحك شفته من الخارج ولكنه قام بمخالفة التوقع، وهذا ما يسمى بمفارقة السلوك الحركي إذ أنه قام بفعل على خلاف العادة فيكون هذا البخيل هو الذي صنع المفارقة ووقع ضحيتها. ومفارقات السلوك الحركي إنما تتمثل بالأفعال والحركات لا بالأقوال والنصوص ، وربما تنبه الجاحظ لذلك فقال : " وهذا وشبهه إنما يطيب جداً إذا رأيت الحكاية بعينيك . لأن الكتاب لا يصور لك كل شيء " ([36]) .


2.1 ـ نموذج البخيل الضيف:

تغلب صورة البخيل في كتاب البخلاء على أنه يستغل أي دعوة إلى الطعام أو يستغل أي مائدة تعقد ، فيدعو نفسه ويتمتع بما يقدم على المائدة ؛ فالبخيل يبخل على نفسه من ماله ولا يبخل عليها من مال غيره لذلك كان يلجأ إلى الاستفادة من موائد الطعام ملبيا رغبته من كل ما يشتهي ؛ فلا يعلم أحد متى سيعود ويجلس جلسته هذه مرة أخرى ، فقد تطول وقد تقصر.

من الأخبار الطريفة ما يحدثنا به الحارثي عند اجتماعه بعلي الأسواري على مائدة ؛ فيبين حاله عند الأكل ويقول: " وما ظنكم برجل نهش بضعة لحم تعرقا ، فبلع ضرسه وهو لا يعلم. فعل ذلك عند إبراهيم بن الخطاب ، مولى سُليم. وكان إذا أكل ذهب عقله ، وجحظت عينه، وسكر وسدر وانبهر ، وتربد وجهه، وعصب ولم يسمع، ولم يبصر … ولم يفصل تمرة قط من تمرة . وكان صاحب جمل ولم يكن يرضى بالتفاريق. ولا رمى بنواة قط، ولا نزع قمعا ، ولا نفى عنه قشرا ، ولا فتشه مخافة السوس والدود .. . " ([37]) ؛ فوصفه الحارثي بذهاب العقل لأنه أتى بكل ما يجافي الواقع ويناقضه ، ولو تأملنا فيما وصفه الحارثي وجدنا أكثر الوصف وقع لعلامات وجهه ، وحركاته أثناء الأكل من كيفية تغير شكل وجهه وحركات يديه ، وكل هذه التفصيلات الحركية للجسد تدخل في قسم مفارقة السلوك الحركي.

وتتشابه هذه الحكاية مع حكاية أخرى يتمثل وجه الشبه بينهما في رسم ملامح الشخصية فهو يقول: " قيل لأبي الحارث جميّن : كيف وجه محمد بن يحيى على غذائه؟ قال : أما عيناه فعينا مجنون. وقال فيه أيضا : لو كان في كفه كرّ خردل ، ثم لعب به لعب الأُبلي بالأكرة ، لما سقطت من بين أصابعه حبة واحدة. " ([38]) . كلتا الحكايتين السابقتين ذهبتا إلى تصوير هيئة البخيل أثناء أدائه لفعل البخل الذي قد يكون في الأكل، أو في تقتيره الأشياء ، لكن الحركة في هذه الحكاية أكثر إذ صوُر الرجل بلاعب الخفة الذي يتلاعب بالعدد الكبير من حبات الخردل ( ويمكن لنا أن نتخيل آلاف الحبات) فلا يضيّع منها حبة واحدة. وكل هذا التصوير إنما يعكس لنا تناقضات البخيل، ومخالفتها للواقع في إطار مفارقة السلوك الحركي التي مثلت لنا حركة البخيل بصورة قبيحة يرفضها المجتمع ويرفض قيمها.

وقد دعي أشعب – وهو رجل معروف ببخله - يوما إلى مائدة زياد الحارثي ، وكان يضع على مائدته جديا لا يمسه ، ولا يمسه أحد. لكن أشعب من بين القوم كافة عرض للجدي إما لجهله وإما لاشتهائه لحم الجدي فادعى التغافل " فقال زياد: أما لأهل السجن إمام يصلي بهم؟ قالوا: لا ، قال : فليصل بهم أشعب فقال أشعب: أو غير هذا أصلح الله الأمير قال: وما هو؟ قال: أحلف بالمحرجات أن لا آكل لحم جدي أبداً "([39])، في هذه اللحظات كان المدعوين يشاهدون ما يقوم به أشعب ، وهم يعلمون خطأ عمل أشعب فلم يحذره أحد منهم وجلسوا يشاهدون ما سيحل به ؛ فكان الكلام الذي جرى بين أشعب وزياد حتى تخلص أشعب باليمين التي غلظها. ومن تتبع سلسلة الأحداث التي جرت مع أشعب يجد ما حصل معه من جهة مفارقة الورطة حيث وقع أشعب ضحية مفارقة هو صانعها، وكان الناس يشاهدون الحدث دون التدخل في تغيير مساره ، وكأنهم يشاهدون مسلسلا أو مسرحية لورطة أشعب فيتتبعون أحداثها ويترقبون نهايتها.


2.2 ـ نموذج البخيل المضيف :

نتفق أن البخيل يكون ضيفا لكن أن يتحول البخيل إلى مضيف ؛ فهذه في حد ذاتها نقيضة يقدم الجاحظ العديد منها عندما يحل الضيف على البخيل ، فنتساءل : هل سيكرم البخيل الضيف ؟! وكيف ذلك والمضيف بخيل !؟ وهنا لا يجد البخيل بداً من اللجوء إلى الخداع والحيلة - (*) وفق ما تهيؤ له حدة ذكائه وسرعة بديهته حتى يتخلص من هذه الضيافة التي لا يرفضها صراحة . وفي بعض الحالات – إذا كان البخيل أكرم مما نتصور – يقتصد البخيل فيما يقدم ، وفي هذه الحالة يتداخل نموذج البخيل المقتصد ونموذج البخيل المضيف بشكل واحد لتتشكل حكاية معقدة التركيب الفني.

وعلى خلاف المتوقع فإن الجاحظ يأتينا بصورة البخيل وقد استضاف أناسا ، وهذه الحالة قليلة الحدوث عمليا ، ولا يتقبل العقل فكرة البخل والضيافة في آن واحد ، ولكن الجاحظ لا يأتينا بصورة اعتيادية فهو يحاول أن يغرّب في صورة بخيلة حتى تكون صورة البخل أشد أثرا في نفس السامع ولا سيما حين يأتي بالبخيل ضيفا ، وفي حال آخرى يأتي بالبخيل مضيفا ؛ فهو يأتينا بحالة للبخيل ثم على الفور يرد لنا نقيضها، وقد تكون هذه النزعة متصلة بالمبدأ الاعتزالي (المنزلة بين المنزلتين ) وسيكون تفصيلها في مبحث حجج البخلاء.

كان البخيل المضيف يهدف إلى تقليل الطعام المقدم إلى الضيف وكان يحاول تقليل أكل الضيف أو حتى منعه بكل حيلة يفكر فيها، فمن ذلك تفاخر أحد البخلاء بأمره الجارية أن تلقي في القصعة الذبابة والذبابتين والثلاثة ، حتى يتقزز بعضهم ، أو يكفي الله شره ([40]) وآخر يقدم الشحيح من الأرز حتى لو شاء الإنسان أن يعد حبه لعده ، ويقول الضيف إنهم " نثروا عليها لبكة من دبس مقدار نصف أسيكرة فوضعت ليلتئذ في فمي قطعة – وكنت إلى جنبه (المضيف)– فسمع صوتها حين مضغتها ، فضرب يده على جنبي ثم قال : ( اجرش يا أبا كعب اجرش؛ قلت: ويلك! أما تتقي الله! كيف أجرش جزأ لا يتجزأ ؟ " ([41])

في كلتا الحكايتين السابقتين كان البخيل فيها صانع مفارقة وكان الضيف هو ضحية البخيل ويظهر لنا شدة تألم الضحية في الحكاية الثانية عندما قال الضيف : (ويلك ! أما تتقي الله ! ) لأنه إن سلم من قلة الطعام لم يسلم من لسان المضيف ، ومن تحديده الطريقة التي يجب أن يأكل فيها الضيف ؛ فهو لا يقبل الأكل مضغا بل جرشا وكأن الكمية كبيرة حتى يجرشها !

تتشابه الحكايتان في أنهما تنتميان إلى مفارقة السلوك الحركي أي أن الحكايتين تكشفان عن تناقض الأفعال من إلقاء الذباب في الطعام ، ومن طريقة أكل الطعام مضغا وجرشا إلا أن الجزء الأخير من الحكاية الثانية يتم عن مفارقة تختلف عن مفارقة السلوك الحركي وذلك بقول الضيف : (كيف أجرش جزأ لا يتجزأ ) ؛ فالبخيل قد خدع نفسه وهيأ له بكثرة الأرز فجرشه جرشا لكن الأمر يختلف عند الضيف الذي يمضغ حبة أرز واحدة ، وهذا ما يسمى بمفارقة خداع النفس فالبخيل قد خدع نفسه وتخيل الأرز كثيرا حتى جرشه لكن الضيف لم يستطع ذلك .

ومن البخلاء الذين جعلوا الحيلة مذهبا لهم في إبعاد الضيوف عنهم ذلك الأعرابي صاحب الدكان إذ كان أعرابي آخر يتحين وقت غذائه فيأتيه على فرس ولما طال هذا الأمر أخذ صاحب الدكان " دبة وجعل فيها حصى ، واتكأ عليها . فإذا رأى الأعرابي قد أقبل ، أراه كأنه يحول متكأه ، فإذا قعقعت الدبة بالحصى نفر الفرس . قالوا : فلم يزل الأعرابي يدنيه ويقعقع به،حتى نفر به مصرعه." ([42]) ؛ فهذه الحركات التي قام بها صاحب الدكان من تحريك الدبة ، وهزّها إبعاداً للأعرابي هي مفارقة سلوك حركي .

يتبدى لنا من مفارقات السلوك الحركي التي عرضت أن هذه المفارقة تمثل عملا يناقض واقع أعمال الأشخاص في البخلاء سواء كان ذلك العمل إشارة باليد أو علامة تظهر على الوجه ، أو فعلا ، أو حركة ، وغالبا ما تتبدى طرافة مفارقة السلوك الحركي في غرابة العمل الذي يؤديه البخيل وكلما كان الفعل أغرب أو أبعد عن الحدث الواقعي كلما كانت المفارقة أجلّ في استخدامها .

وقد يكون البخل عجيبا عند الإنسان مثل عبد الملك بن قيس الذي كان بخيلا على الطعام جوادا بالدراهم ومن المفارقات التي حصلت معه أنه استصحب رجلا ، ولما ضاق به ذرعا قال له : " ألف درهم خير لك من احتباسك علينا " ([43]) ؛ فبخل برغيف وكرم بألف دينار ، والبخل والكرم أمران يتنافران ولا يتصاحبان إلا في مفارقة كهذه المفارقة التي أصبح فيها الكرم الكثير أهون من البخل القليل وهذا ما يسمى بمفارقة التنافر التي يوجد فيها ثنائيتان متنافضتان : البخل والكرم .



3.1 ـ نموذج البخيل الضحية :

إذا نظرنا للبخيل من منظور الجاحظ فهو ضحية لأن الجاحظ استغله ليسخر به، لكن كثيرا ما نجد البخيل يجلس على مائدة غيره ويتلذذ ، لكنه يحتاج –أحياناً- أن يلبي شهوة نفسه مما لا يجده على موائد المضيفين ، والمفارقة تحدث بذهاب طعام البخيل وعدم تمتعه به لأنه وقع ضحية مؤاكلة بخيل مثله أو شخص نهم . لكن ليس المقصود بالبخيل الضحية البخيل ضحية المفارقة ؛ فقد يكون هذا البخيل ضحيةً للمفارقة أو منتصراً – حسب سياق الحكاية - . لكن المقصود بالبخيل الضحية ذلك البخيل الذي وقع فريسة لغيره إذ وجدوا إليه باباً يقصدونه منه .

ضحيتنا الأولى هو أبو محمد الحزامي إذ استلف منه عليٌ الأسواري مائة درهم، فذهب إلى الجاحظ حزيناً منكسراً لأنّ علياً طلب منه ؛ فقال له الجاحظ : ( إنما يحزن من لا يجد بداً من إسلاف الصديق ، مخافة ألا يرجع إليه ماله ولا يعّد ذلك هبةً منه . فما وجه انكسارك واغتمامك؟ ) . فقال : قد كنت أظن أن أطماع الناس قد صارت بمعزل عني وآيسةً مني ، وأني قد أحكمت هذا الباب وأتقنته . إنّ من أسباب افلاس المرء طمع الناس فيه ، لأنهم إذا طمعوا فيه احتالوا له الحيل ونصبوا له الشرك . وهذا المذهب من علي استضعاف شديد وهو يعرفني وتقرر عنده مذهبي ، فما ظنك بالمعارف والجيران ؛ ([44]) أبو محمد الحزامي ضحية على اعتبار ما سيكون – لأنّ الناس وجدوا إليه طريق ، فكيف بصديقه وصاحبه الذي يعرفه الحزامي جيداً أن يطلب منه ، فهذا الطلب بالنسبة للحزامي – يعني أنه ضعيف الجانب مما سيجعل الناس يكيدون له الحيلة والمكائد في للإيقاع به ، فهو يخاف من الشيء قبل وقوعه لأن كثرة الصائدين يعني في افتراسه وذهاب أمواله ؛ فهذه الحال التي وصل اليها الحزامي والطريقة التي يفكر بها هي مفارقة مأساوية .

وكان رجل تميمي على خوان المهلب قد أمسك عن الأكل إلى أن يسيغ لقمته بالشراب ، وكان المهلب أوصاهم بالإقلال من الماء ، والإكثار من الخبز . فلما طال الأمر على الرجل قال المهلب : اسقه يا غلام ما أحب من الشراب . فلما سقاه استقله وطلب الزيادة منه ، فقال التميمي : إنك لسريع إلى السقي سريع إلى الزيادة . ([45]) فكان مقصد المهلب أن يشرب الرجل ليعاود إلى الطعام بعدما رآه متوقفاً عن الطعام إلى أن يشرب ، لكن الرجل فهم خطأً قول المهلب : ( اسقه يا غلام ما أحب من الشراب .) ؛ فالمعنى الذي أراده المهلب – بينما أرى – أنه يريد سقاية الرجل لأنّ الساقي لم يره ([46]) ولم يفطن إليه ، أما الرجل ففهم الأمر على النقيض أي أنّ السقاية وكثرتها تقلل من تناول الطعام؛ ففهم أنّ المهلب يتقصد إشرابه الماء بكثرة ( ما أحب من الشراب ) حتى يقلل من الطعام ، واستدل على ذلك عندما استزاد في الماء ولم يعترض أحد فقال له : ( إنك لسريع إلى السقي ، سريع إلى الزيادة ) . وفي هذه الجملة – أيضاً – تناقض ذلك أنّ المهلب قال ما قال بعد طول توقف من الرجل ، لكن هذه المدة الطويلة التي انتظرها الرجل يعدها قصيرة لأنه يقول: ( إنك لسريع إلى السقي ) فالمفارقة في هذه الحكاية هي مفارقة عدمية لأنها خلقت من لاشيء ومن سوء فهم الرجل لمقصد المهلب ؛ فوقع التناقص في أقوال كل منهما .

والضحية الأخير هو الجوهري إذ تقصد رجل موعد طعامه ، فكلما جاء كان يقول : ( لعن الله القدرية ([47]) ، من كان يستطيع أن يصرفني عن أكل هذا الطعام ، وقد كان في اللوح المحفوظ أني سآكله ؟ ) ؛ فلما تكرر الأمر ، وأكثر من جملته السابقة قال له الجوهري : ( تعال بالعشي أو بالغداة فإن وجدت شيئاً فالعن القدرية والعن آباءهم وأمهاتهم ) . ([48]) .

الرجل ينسب تصرفاته إلى القدر ، ويلعن من يشكك في قدر الله ؛ فيكسب من ذلك أن يفهم من كلامه أنّه لا يقصد القدوم لتناول الطعام ويمنع من الجهة الأخرى أن يقال عنه أنّه يتعمد القدوم لعن من يشكك في القدر . ولكن لو بحثنا هذه الجملة من الناحية النفسية نجد أنّ خوف الرجل من أن يقال : إن تصرفاته متعمدة هو الدافع للعن من يشكك في القدر إشارة إلى أنّ القدر هو الذي يتحكم بتصرفاته . فبالنسبة لهذا الرجل هو منتصر لأنه يعتقد أنّ حيلته نجحت بينما الأمر مختلف بالنسبة للجوهري إذ كان في بدء الأمر ضحية لكن سرعان ما انتصر لنفسه إذ كشف خبث هذا الرجل ولذلك قال له: ( تعال بالعشيّ أو بالغداة ) ؛ فالأمر لا يستند إلى القدر إذاً ، لأنّ هذه الفترات ليست للأكل أي أنّ الرجل كان يستغل وقت الغداء وينسب الأمر إلى القدر ؛ فكانت هذه مفارقة الايهام التي اتخذها الرجل مفتاحا إلى باب بيت الجوهري .




3.2 ـ البخيل المنتصر :

البخيل في حكايات الجاحظ غالبا ما يكون منتصراً ؛ فهو الذي يستغل الولائم إذا كان ضيفاً ، ويمنع الضيف إذا كان مضيفاً – كما وجدنا في النماذج السابقة -، وهو الذي يستغل ذكاءه وكل حيلةٍ يعلمها في توفير الطعام ، ومنع الناس ماله .

في هذا النموذج لا نريد أن نتحدث عن البخيل الذي يستغل الولائم أو الذي يمنع الضيف أو المحتاج لأن هذا الجانب معهود عند أكثر البخلاء في النماذج التي عرضناها في الصفحات السابقة من هذا المبحث . لكن التركيز سيكون على البخيل الذي يستخدم الحيل ويتفنن في ابتكارها ، وصنعها لأن هذا الجانب هو الأبرز في هذا النموذج .

من البخلاء الماكرين محمد بن أبي المؤمل الذي كان يقول لأصحابه إذا بكروا عليه : ( لم لا نشرب أقداحا على الريق ؟ فإنها تقتل الديدان ، وتأتي على جميع الفضول ، وتسهّي الطعام بعد ساعة ، وسكره أطيب . والشراب على الملأة بلاء …) ويأتي بالفوائد العديدة للشرب على الريق ؛ فيكون هذا اليوم الذي أتاه فيه أصحابه هو اليوم الذي كانوا لا يعاينون فيه لقمة واحدة ، ولا يدخل أجوافهم من الطعام شيئاً . وهو يوم سروره لأنه ربح كلفة الطعام ، وتمتع بالمنادمة . ([49]) الخمر مفيد على الريق – في رأي ابن أبي المؤمل - ، ولكنه في الحقيقة لا يريد إفادتهم ، وإنما أن يوفر الطعام الذي كان سيؤكل لولا فطنته وذكاؤه اللذان شكلا مفارقة الإيهام .

وتمام بن جعفر من البخلاء الذين لا يجعلون منفذاً لندمائهم حين يخاطبونهم ؛ فعندما يقول له أحدهم : ( ما في الأرض أمشى مني ، ولا على ظهرها أحد أقوى مني.) قال : ( وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة ! )، فإن قال : ( لا والله لا أقدر أن أمشي لأني أضعف الخلق عنه ) ، قال : ( وكيف تمشي ، وقد جعلت في بطنك في بطنك ما يحمله عشرون حمالاً ! ) ([50]) ؛ فهذه طريقته مع جميع ندمائه حيث يجعل لكل حال في الموضوع الواحد جوابا([51]) . ؛ فالأول يتحدث عن قوته والثاني يتحدث عن ضعفه . ويكون جوابه واحد لكلا الرجلين وهو كثرة الطعام ، ولكن المفارقة تتشكل في الطريقة التي يعبر بها عن كثرة الأكل إذ يقول للقوي أنه يأكل أكل عشرة ، وهذا الذي يعطيه القوة . ويقول للضعيف أن بطنه يحتاج لعشرين حمالاً من كثرة أكله .فيجعل كثرة الطعام سببا للقوة والضعف ؛ فهو نفسه الذي كان يقول لندمائه: ( إياكم والأكل على الخمار ؛ فالخمار تخمة ، والمتخم إذا أكل مات لا محالة . ) ([52]) . في آنٍ واحد . لكن الأكل لابد أن يكون سببا ي القوة أو سببا في الضعف لكن هذا التداخل بين مفهوم القوة والضعف مرفوض ، لا يقبل إلا عن طريق مفارقة المفهوم إذ يحدث بين المفهومين تناقض واضح .





4.1 ـ نموذج البخيل الأنثوي :

يتشكل بخل المرأة في كتاب ( البخلاء ) على نقيض بخل الرجل ؛ فبخل المرأة غير معيب عليها ولا يذم وجودة عندها ، ومن ذلك قولهم : " إن البخل إنما يعيب الرجل ، ومتى سمعت بامرأة هجيت في البخل ؟ " ([53]) . فقوله : متى سمعت بامرأة هجيت في البخل ؟ يفتح لنا النص على مدلولين : الأول : أن البخل ليس من الصفات الزميمة التي تتصف بها النساء . والثاني : أن البخل صفة موجودة عند النساء يدلنا على ذلك عدم إنكار صفة البخل عند المرأة - من خلال الجملة السابقة - .

من الحكايات التي نجدها في ( البخلاء ) حكاية مريم الصناع مع ابنتها التي زوجتها وهي بنت اثنتي عشرة سنة ـ وهذا شكل من البخل لتتخلص من مؤنة تربيتهاـ ، فحلتها الذهب والفضة وكستها حتى عظمت أمرها في عين الأحماء . فكان هذا الفعل مستهجنا من قبل الزوج ( مريم) - زوج مريم الصناع – فهو يعلم ضيق محال العيش وعدم قدرته على تكلف مال زواج ابنته ، فأوضحت مريم هذا الأمر بأنها منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها كانت ترفع من دقيق كل عجنة حفنة . على أنها كانت تخبز في كل يوم مرة ، فإذا اجتمع من ذلك مكوك باعته.([54])

هذا الفعل هو أشبه للتوفير منة للبخل ، ولكن لو بحثنا في مدة أداء هذا الفعل وجدنا أن مريم الصناع كانت ترفع حفنة كل يوم طول مدة وجود ابنتها في بيتها حتى انتقالها إلى بيت زوجها ، وهذه المدة هي : 12 سنة × 365 \ حفنة \ سنة = 4380 حفنة. فيمكن لنا أن نتأمل في طول هذه المدة وافتعال البخل في كل يوم من هذه المدة حتى وصلت مريم الصناع لفعل الكرم فهي بخلت على نفسها وبيتها طول هذه المدة لتكون النتيجة إظهار الكرم حقيقة وليس ادعاء ؛ فحتى يحدث فعل الكرم كان يجب حدوث فعل البخل لمدة طويلة زمنيا ( 12 سنة ) ليتحقق فعل الكرم في أيام معدودة فكان البخل وصولا إلى الكرم وهذه هي مفارقة التنافر فكلا الفعلين لا يمكن أن يتوجدا معا، فعند وجود البخل ينتفي الكرم وعند وجود الكرم تنافر البخل وابتعد عن صاحبة .

أما قصة ليلى الناعظية " صاحبة الغالية من الشيعة ، فإنها ما زالت ترفع قميصا لها وتلبسه ، حتى صار القميص الرقاع ، وذهب القميص الأول ، ورفت كساءها ولبسته ، حتى صارت لا تلبس إلا الرفو ، وذهب جميع الكساء . وسمعت قول الشاعر:
البس قميصك ما اهتديت لجيبه فإذا أضلك جيبه فاستبدل
فقالت : إني إذا لخرقاء . أنا - والله – أحص الفتق وفتق الفتق ، وأرقع الخرق وخرق الخرق " ([55]) .

لو بحثنا في أقسام الحكاية السابقة نجد أنها تتكون من ثلاثة أقسام :
1- وصف ليلى الناعظية : وأنها من غالية الشيعة ، وهذه لفتة دينية من الجاحظ إذ تكلم عن أصحاب فرقة دينية ونقدها من خلال شخص واحد وكيف طبق هذا الشخص مبادئ فرقته على حياته اليومية .

2- أحداث القصة : وفيها يذكر قصة ليلى الناعطية ، ويبرز لنا حرصها الشديد على أداء فعل البخل الذي ألبسها القميص رفوا .

3- سماعها بيت الشعر : ذلك أن ليلى الناعظية عندما سمعت هذا البيت تأكدت من أنها لا تؤدي فعل البخل بحرص متناه وأنها برفوها القميص لا تزال مقصرة أمام صاحب الشعر الذي يستبدل قميصه إذا لم يهتد إلى جنبي القميص ، وهذا الفعل يكاد يكون مستحيلا .

عند النظر في أقسام هذه الحكاية نجد أن أحداث القصة تنتهي عند القسم الثاني مستدلين على بخل ليلى الناعطية ولكن الجاحظ يكسر التوقع بأنة يخلق حبكة جديدة للحكاية تتمثل في سماع ليلى الناعطية بيت الشعر الذي يذهب بالحكاية إلى منحى جديد وهو جود ليلى الناعطية وتقصيرها مقارنة بفعل الشاعر من خلال بيته ؛ فكان تصور القارئ يتجه لبخل ليلى الناعطية ثم يذهب الأمر إلى نقيض المتوقع وهو جود ليلى مقارنة بالشاعر وهذا ما يسمى بمقارنة كسر التوقع .


4.2 ـ نموذج البخيل الذكوري :

البخيل الرجل أجرأ من البخيل المرأة ؛ فان كان بخل المرأة توفيرا واقتصادا فان بخل الرجل شح وإقتار يتضح من خلال ممارسة الرجل لفعل البخل فتظهر خصوصية هذا الفعل من خلال حدوثه بواسطة رجل حيث يكون فعل البخل أجرأ وبه تحد لعموم الناس عن طريق قيام البخل جهرة لا بالخفاء .

من الحكايات التي يؤدي فيها صاحبها فعل البخل جهرة حكاية صالح بن عفان الذي كان يذهب في سحر كل يوم إلى الحمام فتحين غياب صاحب الحمام عنه فيمسح عانته وأردافه ، ثم يتستر بالمئزر ثم يقوم فيغسله في غمار الناس ، ثم يأتي في اليوم في مثل تلك الساعة ، فيطلي ساقيه وبعض فخذيه ، ثم يجلس ويتزر بالمئزر ، فإذا وجد غفلة غسله ، ثم يعود في مثل ذلك الوقت ، فيمسح قطعة أخرى من جسده . فلا يزال يطلي في كل سحر حتى يذهب من صاحب الحمام بطلية . ([56]) .

المفارقة في هذه الحكاية هي مفارقة الخدعة إذ أن البخيل لم يكن يقوم بما كان يفعله إلا في حالة غياب صاحب الحمام، وهنا لا بد أن نلحظ تصرف البخيل الذي لا بد وأنه كان ينتظر طويلا حتى يستغل فترة غياب الرجل عن حمامه، والملحظ الآخر أن هذه الحكاية جاءت مبتورة النهاية ذلك أن البخيل ظل مقتنعا بأنه منتصر على صاحب الحمام بينما صاحب الحمام كان يعرف أمره ولو واجهه البخيل وكشف أمره لكانت المفارقة أوقع أثرا وأكثر جمالا .

ومن مفارقات التنافر أن أبا القماقم ألحّ على قوم عند الخطبة إليهم ، " يسأل عن مال المرأة ويحصيه . ويسأل عنه . فقالوا : قد أخبرناك بمالها ، فأنت أي شيء مالك ؟ قال : وما سؤالكم عن مالي ؟ الذي لها يكفيني ويكفيها . " ([57]) .
من المنطق أن أهل المرأة هم الذين يسألون عن مال أبي القماقم وحاله – بدءا – لكن أبي القماقم هو الذي بدأ بالسؤال ولما كان سؤال القوم عن مال أبي القماقم استهجن الأمر وعد سؤالهم غريبا لأن مال المرأة يكفيه ويكفيها . والطريف هنا أن أبا القماقم عندما ذكر المال جعل مال المرأة وكأنه له ، وعندما ذكر الانتفاع من المال كان الانتفاع أولا له ثم لها إذ قال : يكفيني ويكفيها ؛ فجعل الأولوية لنفسه وكأني به صاحب المال ، وكأني بالمرأة تسعى إلى الزواج منه .



5.1 ـ نموذج البخيل الغني:

قد يكون البخل مبرراً للفقير لكن بخل الغنيّ لا مبرّر له ؛ لذلك فإنّ الجاحظ يصور لنا البخيل الغني بطريقة مفارقة فيها القدح والسخرية لشخص هذا البخيل . وهنا يبرز اختيار الجاحظ الذكي لنماذج بخلائه ، فتصوير الغني بخيلاً هو أمر خارج عن العادة وبه طرافة من حيث الطريقة التي يتم بها فعل البخل .

الأغنياء من البخلاء في كتاب ( البخلاء ) ليسوا من البرجوازيين أو من طبقة الأغنياء المترفين ، وإنما هم أغنياء منتزعين من بيئة الحياة اليومية لأهل البصرة ؛ فالغني الذي يتحدث عنه الجاحظ ليس بعيدا عن الواقع ، ومن ذلك أنّ الجاحظ يتحدث عن صيرفي ، وهو زبيدة بن حميد ، الذي " استلف من بقّال كان على باب داره درهمين وقيراطاً ، فلما قضاه بعد ستة أشهر ، قضاه درهمين وثلاث حبات شعير . فاغتاظ البقّال ، وقال : سبحان الله ! أنت رب مائة ألف دينار ، وأنا بقال لا أملك مائة فلس ، وإنما أعيش بكدّي وباستفضال الحبة والحبتين . صاح على بابك جمّال ، وحمّال ، ولم يحضرك شيء ، وغاب وكيلك ، فنقدت عنك درهمين وأربع شعيرات ، فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات ! فقال زبيدة : يا مجنون أسلفتني في الصيف فقضيتك في الشتاء ، وثلاث شعيرات شتوية ندية ، أرزن من أربع شعيرات صيفية ." ([58]) . فالجاحظ في نقله هذه الحكاية إنما يريد أن يبيّن تناقض المفهوم بين المدين (زبيدة بن حميد ) . والدائن ( البقّال ) الذي يجد أنّ سداد كامل المبلغ الذي أخذ منه هو الحق ، بينما تظهر مفارقة المفهوم في قول زبيدة : ( ثلاث شعيرات شتوية ندية أرزن من أربع شعيرات يابسة صيفية ) ؛ فالخلاف قائم على شعيرة واحدة ، لا بل على فرق وزن بين ثلاث شعيرات وأربعة ؛ فنتعجب من هذا الصيرفي الغني أن يدقق على وزن شعيرة ويبخل به ، ونتعجب أكثر عندما ننظر إلى المدة الزمنية لقضاء الدين إذ لا يعقل أنّ هذا الصيرفي الغني لا يملك المال لسداد الدين وهذا ما يوجه النص إلى أن الصيرفي تعمد تأخير سداد الدين من الصيف إلى الشتاء توفيراً للشعيرة ؛ فينتج من مفارقة المفهوم مفارقة زمنية تعتمد طول الزمن قصداً إلى التوفير أساساً لها .

وقد عرض الجاحظ للمتيسرين من أصحاب المال ممن يملكون الدور ويعيشون من أجارها ، وقد جعل المثال على ذلك الكندي الذي رأى قدوم زائرين عند جاره ؛ فعث الجارية تقول له : ( إن كان مُقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين ، احتملنا ذلك . وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة ، يجر علينا الطمع في الليالي الكثيرة ) . فبعث إليه : ( ليس مقامهما عندنا إلا شهراً أو نحوه ) .
فكتب الكندي : ( إنّ دارك بثلاثين درهماً ، وأنتم ستة ، لكل رأس خمسة . فإذ قد زدت رجلين ، فلا بدّ من زيادة خمستين . فالدار عليك من يومك هذا بأربعين ) . ([59]) . ثم يبعث الكندي للجار كل دليل يلزمه دفع الخمستين ، فلا يترك شاردة ولا واردة إلا ويحتج بها ([60]) ، وكل هذا الاحتجاج ليزيد الخمستين لمدة شهر واحد فقط ، والأمر الطريف أنه احتاج لاستعراض عدد السكان واحتساب أجارهم، وتوزيعه للوصول إلى زيادة الأجر بهذا الشكل ؛ فهذا التنفيذ لأعمال البخل والشح تقع ضمن المفارقة العملية .



5.2 ـ نموذج البخيل المعدوم:

بخل الفقير قد لا يعاب إذ أنّ حاله هي التي تفرض عليه البخل ؛ فيكون بخله فطريا لا مكر فيه ولا حيل ، ذلك أننا وجدنا عددا من مفارقات بخلاء الأغنياء مصنوعة ومخطط لها بينما نجد مفارقات بخلاء الفقراء – في الغالب – عفوية الخاطر ولا تحضير مسبق لها .

ومن بخلاء الفقراء بعض الحمّارة إذ رأى الجاحظ زهاء خمسين رجلاً يتغذون على مباقل بحضرة قرية الأعراب ، في طريق الكوفة ، وهم حجاج . فلم ير من جميع الخمسين رجلين يأكلان معاً ، مع أنهم متقاربون يحدث بعضهم بعضاُ . [61]) ؛ فموضع التناقض في هذه الحكاية هو العنصر صاحب التأثير الأكبر في المفارقة الهزلية إذ أنّ الجاحظ يسخر من طريقة تعامل هؤلاء الأشخاص مع بعضهم البعض ففي الخمسين رجلا لم يجد واحدا دفعه الكرم . فيكون ذلك إيذاناً بانتهاء المفارقة منطقياً إلا أنّ الجاحظ يعيد صنع حبكة جديدة بقوله : ( مع أنهم متقاربون يحدث بعضهم بعضا ) ؛ فلم تنتهِ المفارقة بمجرد ذكر الحدث ، وهو عدم أكل عدد كبير من الرجال معاً ، بل إنّ الأمر الأطرف أيضاً – أنّ هؤلاء الرجال يجلسون قرب بعضهم البعض يتحدثون متشاركين في الكلام دون مشاركة في الطعام . وهذه الطريقة تزيد من ثقل سخرية الجاحظ من هؤلاء القوم معطية بعداً أعمق للمفارقة الهزلية لتكون مفارقة هزلية مركبة.


6.1 ـ نموذج البخيل من العرب :

نماذج بخلاء الجاحظ غالبا ما تتحدث عن شخص عربي يتفوق على الجنس غير العربي إلا إذا شاء الجاحظ أن يستهدف صفة اجتماعية بالذم والتهكم فيجعلها في الشخص العربي ليس للنيل من البخيل العربي وإنما للنيل من ذيوع صفة بين أفراد المجتمع العربي . ولكننا إذا وقفنا إزاء النموذج الذي يتحدث عن عروبة الشخص يقوم الجاحظ بخلق شخصية ذات حدود غريبة إذ نجد بالشخصية مظاهر عديدة للكرم لكن الجاحظ يخلق لها جوانب للبخل بطرق غير متوقعة .

من مظاهر تفوق البخيل العربي أنه – مع بخله – يدعو الناس إلى الطعام ، منهم إذا ما رفع القوم أيديهم وجاء آخر فإنه يضع شروطا للأكل منها قول أحدهم : ( أجهز على الجرحى ، ولا تعرض للأصحاء . ويقول : اعرض للدجاجة التي قد نيل منها ، وللفرخ المنزوع الفخذ ، فأما الصحيح فلا تعرض له . وكذلك الرغيف الذي قد نيل منه، وأصابه بعض المرق . ) ([62]) . ومنهم من كان يرفع يديه قبل الضيوف ويقرأ القرآن ، والمفارقة تقع في الآيات التي يقرؤها في هذا الموقف وهي : (( إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا )) ([63]) .

والبخيل العربي لا يعدم الكرم ذلك أن رجلا بخيلا اتفق والشوّاء إذا جاءه الضيوف أن يأتيه بجدي للشواء فعندما يصنع جديا للأكل يأتيه الشواء بالجدي غير منضج وكأن الرجل استعجل الشواء فيه ، فيكسب الرجل من ذلك أنه يحتسب عليهم جديا في اليوم الأول فلا يأكلوه ويحتسب عليهم جديا في اليوم الثاني عندما يقدم إليهم باردا ، فيكون قد كسب البخيل سمعة الضيافة وعدم أكلهم للجدي .

ومن البخلاء من سأله رجل : ( هل اصطبغت بماء الزيتون قط ؟ فقال : لا والله ثم قال الرجل : أما والله لو فعلته ما نسيته ؛ فقال البخيل : أجل إني والله لو فعلته ما نسيته . فكان قصد الرجل أنه لو اصطبغ بالزيتون لن ينسى هذا الاصطباغ لجودته وتعلقه في الذهن فكان جواب البخيل مخادعا إذ قصد أنه لو اصطبغ لما نسيه أي لما نسي الزيت الذي أهدره على الاصطباغ فكانت هذه مفارقة الحال أي أن كل واحد منهما يتكلم في موضوع مختلف عن الآخر، لكن يبقى رابطا عاما يصل بين الاثنين.

هناك عدد من المفارقات التي تتخذ مواضيعا يتناولها العرب من ذلك أن أعرابيا نزل برجل فأتاه بلبن وتمر وحيس وخبز وسمن وسلا ، فبات ليلته ثم أصبح يهجوه : كيف لم ينحر له – وهو لا يعرفه – بعيرا . ([64]) ويعلق الجاحظ على ذلك أن " لو نحر هذا البائس لكل كلب مر به بعيرا من مخافة لسانه لما دار الأسبوع إلا وهو يتعرض للسابلة يتكفف الناس ، ويسألهم العلق " ([65]).

ومن البخلاء من عشق ، فلم يزل يتبع معشوقته ويبكي بين يديها ، حتى رحمته. وكانت مكثرة وكان مقلا . واشترى لها يوما هريسة فقدمها لها ، وقال : أنتم أحذق بها، فلما كان بعد أيام تشهى عليها رؤوسا ، فلما كان بعد قليل طلب منها حيسة . فلما كان بعد ذلك تشهى عليها طفيشيلة . حتى قالت المرأة : رأيت عشق الناس يكون في القلب وفي الكبد وفي الأحشاء ، وعشقك أنت ليس يجاوز معدتك . ([66]) فهذا النوع من الحكايات يعكس الصورة التي كان عليها المجتمع العربي في ذلك الوقت ويعرض لشيوع الجواري بهذه الطريقة الساخرة عن طريق مفارقة الموقف .
الحكايات السابقة تتضمن مفارقات متعددة قد تؤخذ على أكثر من جانب ، فالعربي المضيف يقدم الطعام بأصنافه المختلفة حتى أن منهم من يقدم جديا كاملا ، وهذا في حد ذاته مفارقة تنافر إذ لم يجتمع كون البخيل مضيفا وكريما في نفس الوقت إلا أن هذا المضيف غالبا ما كان يتلفظ كلمة أو يقوم بفعل يتسم عن بخل تتشكل عن طريق مفارقة الكرم الزائف .


6.2 ـ نموذج البخيل غير العربي :

يبدو أن الجاحظ إبان كتابته كتابه عن البخلاء كان في فكرة إنشاء مقارنة بين البخل العربي وبخل غير العرب حتى يتسنى له الدفاع عن العرب أمام الشعوبية التي شاعت في تلك الحقبة من الزمن . وهذه المقارنة التي أنشأها الجاحظ تشكلت بواسطة الضد بين الحكاية والأخرى الأمر الذي أظهر المفارقة بشكلها الواضح في هذا الكتاب .

البخيل العربي الذي تحدث عنه الجاحظ – فيما قرأت – يدور موضوع بخله عن الطعام، وإذا كان النموذج الذي يشكله الجاحظ عربيا يختص العروبة فإنه – غالبا – بخيل كريم لكنه يدخل أبواب البخل من أضيق منافذه ، أما البخيل غير العربي الذي يشكله الجاحظ يدخل قصر البخل من أوسع أبوابه ، وغالبا ما يكون موضوع بخله مستمد من الحياة اليومية واستخدام الأدوات والمعدات ، وطريقة التوفير في استخدام هذه الأدوات .

من البخلاء غير العرب الذين خصهم الجاحظ في كتابه أهل مرو ، فالمروزي يقول للزائر إذا أتاه ، " وللجليس إذا طال جلوسه : تغذيت اليوم ؟ فإن قال : نعم ، قال : لولا أنك تغذيت لغذيتك بغذاء طيب ، وإن قال : لا . قال : لو كنت تغذيت لسقيتك خمسة أقداح . " ([67]) ومثل هذا الأمر حدث مع الجاحظ نفسه عندما كان في منزل أبي كريمة – وأصله من مرو – فرأى الجاحظ يتوضأ من كوز خزف ، فقال : سبحان الله ! تتوضأ بالعذب ، والبئر لك معرضة ؟ فأجاب : ليس بعذب ، إنما هو من ماء بئر . فقال : فتفسد علينا كوزنا بالملوحة . ([68]) .؛ فبهذه الطريقة التي يستخدمها المروزي يلجم حركة مضيفه حيث لا يستطيع الاستفادة من ماله بأي طريقة ممكنة إذ أن البخيل نفسه هو الذي يصنع المفارقة التي أسميها – فيما أرى – مفارقة التملص الصعب إذ لا يستطيع الضحية أن يتخلص من صانع المفارقة الذي يحبسه ضمن وجهين لا يستطيع أن يتعدى أحدهما .

والمروزي عندما يبخل فإن بخله – غالباً- يتركز في حوائج الحياة اليومية كالسراج والمصباح ، وإن اجتمع على الطعام فإنه يبخل صراحة لا كما كان يفعل البخيل العربي الذي يحاول التملص من الدعوة إلى الطعام تارة ، ويحاول الإقتار من كمية الطعام تارة أخرى . فلو قارنا البخيل العربي مقارنة بالبخيل المروزي وجدنا البخيل العربي أكرم – على بخله – .

من مواضيع الحياة اليومية التي برز فيها بخل غير العربي " أن خراسانية ترافقوا في منزل ، وصبروا عن الارتفاق بالمصباح ما أمكن الصبر . ثم إنهم تناهدوا وتخارجوا ، وأبى واحد منهم أن يعينهم ، وأن يدخل في الغرم معهم . فكانوا إذا جاء المصباح شدوا عينه بمنديل ، ولا يزال ولا يزالون كذلك إلى أن يناموا ويطفئوا المصباح ، فإذا أطفؤوه أطلقوا عينيه . " ([69]) . فهذه الحركات والتصرفات التي رسمها الجاحظ بدقة ألفاظها شكلت مفارقة السلوك الحركي التي تهدف إلى النيل من الذات غير العربية .

يتبين لنا من الحكايات السابقة أن الجاحظ يقرر أن الخراساني في فرقة عن بني جنسه ، ولا يتعاون معهم إلا إذا كان له مصلحة يرتجي من ورائها التوفير كشراء اللحم، " فإذا اشتروا اللحم قسموه قبل الطبخ ، وأخذ كل إنسان منهم نصيبه فشكه بخوصة أو خيط ، ثم أرسله في خل القدر والتوابل . فإذا طبخوه تناول كل إنسان خيطه وقد علمه بعلامة ثم اقتسموا المرق ، ثم لا يزال أحدهم يسل من الخيط القطعة بعد القطعة ، حتى يبقى الحبل لا شيء فيه . ثم يجمعون خيوطهم . فإذا أعادوا الملازقة أعادوا تلك الخيوط ، لأنها قد تشربت الدسم ، فقد رويت . وليس تناهدهم من طريق الرغبة في المشاركة ، ولكن لأن بضعة كل واحد منهم لا تبلغ مقدار الذي يحتمل أن يطبخ وحده ، ولأن المؤنة تخف أيضا والحطب والخل والثوم والتوابل ، ولأن القدر الواحدة أمكن من أن يقدر كل واحد منهم على قدر " ([70]) .

تعد هذه الحكاية ضمن المفارقة المزدوجة أو قد نقسمها إلى قسمين : الأول ينتهي عند تشرب الخيط للدهن ، وفي هذا القسم الحديث عن شح المروزي . والثاني
يبدأ من عند الكلام الذي يتحدث به الجاحظ عنهم ، وفي هذه الفقرة تتضاعف المفارقة حيث يزيد بها الجاحظ تهكمه وهزؤه بالخراساني ، ونيله منه .

المفارقة في القسم الأول تتضح على أنها مفارقة سلوك حركي إذ تعكس الحكاية لا معقولية أداء الخراساني . أما المفارقة الهزلية في القسم الثاني فلها دور مزدوج ، الأول : أداء معنى المفارقة التي تزدري الخراساني وروابطه الاجتماعية . والثاني : أنها أثرت على المفارقة في القسم الأول ؛ فحولتها من مفارقة سلوك حركي إلى مفارقة النقش الغائر التي تهدف إلى النيل من ذات الخراساني . وهكذا فإن هذه الحكاية مركبة إذ احتوت على مفارقتين تختلفان عن بعضهما البعض غير أن المفارقة الثانية أشد حبكة إذ بمجرد قراءتها تتغير نوع المفارقة في القسم الأول .




7.1 ـ نموذج البخيل العالم :

بخل العالم في كتاب البخلاء مختلف تماما عن باقي النماذج ، ذلك أنّ لغة العالم تختلف ، والمنطق الذي يتخذه في البخل يختلف ، وطريقة بخله تختلف – أيضاً . وبالتالي فإنّ نوع المفارقة هو من درجة راقية تليق والعلماء الذين نتحدث عنهم .

من حكايات الطعام التي يتندر بها أبو نواس قوله : " كان معنا في السفينة – ونحن نريد بغداد – رجل من أهل خراسان ، وكان من عقلائهم وفقهائهم . فكان يأكل وحده . فقلت له : لم تأكل وحدك ؟ قال : ليس عليّ في هذا الموضع مسألة: إنما المسألة على من أكل مع الجماعة ، لأنّ ذلك هو التكلف . وأكلي وحدي هو الأصل وأكلي مع غيري زيادة في الأصل ." ([71]) فطلب أبي نواس من الفقيه الخراساني ليس هو المتكلف وإنما إجابة الرجل التي تعد مفارقة فلسفية.

وأكل أعرابي مع أبي الأسود الدؤلي " فرأى له لقماً منكراً : وهاله ما يصنع ، قال له : ما اسمك ؟ قال : لقمان . قال : صدق أهلك . أنت لقمان "([72]) تعتمد هذه المفارقة على لفظها في مفارقة لفظية تتمثل في قول أبي الأسود الدؤلي : صدق أهلك ، أنت لقمان . والمفارقة اللفظية هذه هي من نوع النقش الغائر إذ هدفها النيل من ذات هذا الشخص .

ومن المفارقات التي تنطبق على الأصمعي في جانب الأكل أنه سأل يوما جلساءه عما يأكلون ويشربون ؛ فسأل الأول : أبا فلان ما أدمك ؟ قال : اللحم. قال : أكلُّ يوم لحم ؟ قال : نعم . قال : بئس العيش! هذا ليس عيش آل الخطاب. كان عمر بن الخطاب رحمة الله عليه ورضوانه يضرب على هذا ، وكان يقول : مد من اللحم كمد من الخمر .
ثم سأل الذي يليه : أبا فلان ما أدمك ؟ ؛ فتحدث عن أطايب الطعام . قال : ليس هذا عيش آل الخطاب . كان ابن الخطاب رحمة الله عليه ورضوانه يضرب على هذا . وكان إذا وجد القدور المختلفة الطعوم كدّرها في قدر واحدة، وقال : إنّ العرب لو أكلت هذا لقتل بعضهم بعضاً .
ثم يأتي على الذي يليه ويسأله : أبا فلان ما أدمك ؟ فيجيب الرجل ثم يقول الأصمعي : ليس هذا عيش آل الخطاب . كان ابن الخطاب كذا وكذا حتى أتى على آخرهم ، كل ذلك يقول : بئس العيش هذا . هذا ليس عيش آل الخطاب . حتى أقبل عليه بعضهم يسأله : يا أبا سعيد ما أدمك ؟ قال : يوماً لبن ، ويوماً زيت ، ويوماً سمن ، ويوماً تمر، ويوماً جبن ، ويوماً قفار ، ويوماً لحم ، عيش آل الخطاب . ([73]) الفكرة العامة لهذه الحكاية لا تعكس أيّ بخل للأصمعي أو إقتار ؛ فالكل يجود بأنواع الطعام حتى الأصمعي ، لكن الفرق أنّ الأصمعي ينوع في طعامه أما أصحابه فلا .

المفارقة في هذه الحكاية تكمن في استغلال شخصية أدبية ورعة إذ لا نستوعب فكرة أنّ شيخاً ورعاً وقوراً يضحك دون تحفظٍ – مثلا - ، وهنا – أيضاً – لا نستوعب أنّ شخصية مثل شخصية الأصمعي تطوف على المدعوين جميعاً تسألهم عما يأكلون من طعام ، ولقد يكون الأمر واقعياً أن يسأل الأصمعي مدعوّيه عن رواية شعر أو مسألة في اللغة ؛ وبهذا تكون المفارقة في هذه الحكاية مفارقة كسر التوقع. ولا نتوقع من الجاحظ في هذا النموذج أن يصور بلاهة الشخصية أو غباءها بل الأمر نقيض ذلك؛ فالبخيل العالم هو عالم قبل أن يكون بخيلاً أي أنّ علمه ومنطقه يتحدثان دفاعاً عن بخله ، وحماية لأمواله . ومن ذلك أنّ قوماً تمشوا إلى الأصمعي مع تاجر كان اشترى من الأصمعي ثماراً وخسرت ، فجاؤوا إليه يطلبون حسن النظر، فثار الأصمعي وقال لهم : أسمعتم بالقسمة الضيزى ؟ هي والله ما تريدون شيخكم عليه . وهاهنا واحدة ، وهي لكم دوني – ولا بد أن أحتمل لكم ، إذ لم تحتملوا لي - : والله ما مشيتم معه إلا وأنتم توجبون حقه وتوجبون رفده . لو كنت أوجب له مثل ما توجبون لقد كنت أغنيته عنكم . وأنا لا أعرفه ولا يضربني بحق ، فهلمّوا نتوزع هذه المفضلة بيننا بالسوية ، فقام القوم ولم يعودوا . ([74]) . الحوار الذي دار بين الأصمعي والقوم لدليل على فطنة الأصمعي وسرعة بديهيته فعوضاً من أن يكون القوم صانعي مفارقة وضحيتهم الأصمعي ، كان الأصمعي صانع المفارقة وحاك شباكها ببطء على القوم حتى لم يجدوا مفراً من المغادرة لأن استمرار وجودهم عنده يعني أنهم سيتحملون الغرم معه . فكانت الحيلة الذكية التي استخدمها الأصمعي بعد أن رفض أن يتحمل الخسارة – أن يحمل الخسارة على أصحاب التاجر وقومه فإن وافق القوم دفع الأصمعي القليل لأنّ الخسارة توزعت على الكل ، وإن رفض القوم – وهم الأقرب إلى التاجر – فمن باب أولى أن يرفض الأصمعي – وهو لا تمده بالتاجر صلة - .



7.2 ـ نموذج البخيل من العامة :

إن وجدنا الحيلة والذكاء عند البخيل العالم ، نجد قلة الفطنة والتنبه عند بخيل الثقافة العادية . فشخصية البخيل العادي تفتقر إلى سرعة البديهة والحاضرة و –غالبا – تسير عن طريق شخصية أكثر حضورا وذكاء .

نجد شخصية بخيل الثقافة العادية أكثر ما تتمثل في شخصية ثمامة ، ومن ذلك أن ثمامة كان يكره أن يُجلس على خوانه من لا يأنس به إلا أن قاسم التمّار حبس على خوان ثمامة بعض من لا يحتشمهم ثمامة . ولما تكرر هذا الفعل من قاسم لام ثمامة قاسما ؛ فكان رده له : إنما أريد أن أسخّيك ، فأنفي عنك التبخيل وسوء الظن . فاحتمل ثمامة هذا الأمر. وتحركت بطن أحدهم عليه ؛ فأراد المنزل . فقال له قاسم : ( فلمَ لا تتوضأ هاهنا ؟ فإن الكنيف خال نظيف ، والغلام فارغ نشيط ، وليس من أبي معن حشمة ، ومنزله منزل إخوانه . ) فدخل الرجل يتوضأ . فلما كان بعد أيام حبس آخر ، فلما كان بعد ذلك حبس آخر ، فاغتاظ ثمامة ، وبلغ في الغيظ مبلغا لم يكن على مثله قط . ثم قال : ( هذا يحبسهم على غذائي لأن يسخيني . يحبسهم على أن يخرأوا عندي لمه ؟ لأن من لم يخرأ الناس عنده فهو بخيل على الطعام ؟ وقد سمعتهم يقولون : فلان يكره أن يؤكل عنده ، ولم أسمع أحدا قط قال : فلان يكره أن يخرأ عنده ) . ([75]) .

تجري هذه الأحداث بين شخصيتين رئيسيتين هما : ثمامة وقاسم التمار والصراع بينهما يجري على حدثين . الأول ، وهو دعوة قاسم التمار لمن لا يأنس بهم ثمامة حتى ينفي عنه التبخيل . والثاني ، وهو كثرة استخدام هؤلاء المدعوين لكنيف ثمامة ، وهنا لا بد لثمامة من التصرف ، ففي الحدث الأول وقع فريسة لمنطق قاسم الذي لا يرفض ، لكنه في الحدث الثاني أسرع إلى قاسم يخبره عن منطق ذهاب المدعوين إلى الكنيف ، وهو في صنعه لهذا المنطق في لهجتين : لهجة الإنسان الذي يتكلم بحرص وجد – وهذا مستبعد – ، ولهجة الشخص المتألم الذي يتكلم باستهزاء ، فهو مع أنه يتكلم بمنطق إلا أنه يستهزأ من هذا المنطق ؛ فلولا وقوع الحدث الأول لما وقع الحدث الثاني والذي تكمن فيه مفارقة النغمة .

ومن تلك الحكايات أيضا حديث المكي للجاحظ أنه كان عند العنبري ، إذ جاءت جارية أمه ، ومعها كوز فارغ ، فقالت : ( قالت أمك : بلغني أن عندك مزملة ، ويومنا يوم حار ، فابعث إلي بشربة منها في هذا الكوز ) . قال : ( كذبت ، أمي أعقل من أن تبعث بكوز فارغ ونرده ملآن . اذهبي فاملئيه من ماء حبكم ، وفرغيه في حبنا ، ثم املئيه من ماء مزملتنا ، حتى يكون شيء بشيء ) . ([76]) .
الغريب هنا أن العنبري نعت الجارية بالكاذبة ، وكأن الموضوع كله اختلاف من عندها، فهو يعلم – تماما – بخل أمه الذي أورثته إياه فلا يقبل أن ينقص من عنده شيء، ولكنه يقبل أن يستبدل ماء ساخنا بماء بارد لتتشكل الحكاية على هيئة مفارقة عملية . ويتمثل جانب من المفارقة التشكيلية في قوله : ( كذبت ، أمي أعقل من أن تبعث بكوز فارغ ) . فلو تأملنا هذه العبارة نفهم أن الأم بخلية وبخيلة جدا ، ونفهم أيضا أن هذا الرجل يستمد بخله من هذه الأم التي لا يمكن لها أن تطلب شيئا دون أن تعطي مقابله .




8.1 ـ نموذج البخيل بالفطرة :

البخل - غالبا – ما يكون اكتسابا أي أن الشخص يتعرض لمواقف متعددة تدعوه للاقتصاد في الشي بما يسمى البخل . ولكن الجاحظ يعد البخل عند بعض فئات المجتمع فطرة تولد مع الإنسان وكأنها من التركيب الفسيولوجي للإنسان . ولم نجد هذا النوع من النموذج - فيما بحثنا – إلا في الجنس غير العربي وخصوصا المروزي ( الخراساني ).

من الحكايات التي تتحدث عن بخيل الفطرة أن رجلا امتحن صبيا من أهل مرو قائلا : " أطعمني من خبزكم .! قال : لا تريده ، هو مرّ . فقلت : فاسقني من مائكم . قال : لا تريده ، هو مالح . قلت : هات لي من كذا وكذا . قال : لا تريده . هو كذا وكذا . إلى أن عددت أصنافا كثيرة ، كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إليّ . فضحك أبوه وقال: ما ذنبنا ؟ هذا من علمه ما تسمع ؟ يعني إن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم . " ([77]) ، فالمفارقة تكمن في أن الذي تنطبق علية المفارقة هو طفل صغير يجيب على بديهتة ودون مكر أو سابق تحضير فتكون أجوبته ضاربة في البخل ، وهنا أتى الأمر على خلاف ما توقع الرجل فإما أن يطلب منه ويجيب الطفل بـ (لا) ، أو أن يطلب ويحضر له الطفل ما يريد ؛ لكن أن يستخدم الطفل حيلة؛ فقد صنع الصبي نقيض الحدث المتوقع لتتشكل مفارقة الحدث .

وتتشابه مع الحكاية السابقة حكاية تشابهها في الموضوع وفي البناء وفيها أن جماعة قالوا : أكلنا يوما عند رجل " وبنيّ له يجيء ويذهب . فاختلف مرارا ، كل ذلك يرانا نأكل . فقال الصبي : كم تأكلون لا أطعم الله بطونكم ! فقال أبوه – وهو جد الصبي –: ابني ورب الكعبة " ([78]) . والطريف في هذه الحكاية هذه الحركة والتكرار الذي يقوم به الصبي مما خلق زمنا خاصا بالنسبة لطول جلوس الجماعة على الطعام الأمر الذي أمل المضيف البخيل فجاء صوته على لسان ابنه ( فطرة البخل ) مما دفع الرجل للاعتداد به وبقرابته .

هذه أحوال بخيل الفطرة فلسان حالهم هو أطفالهم الذين اكتسبوا بخلهم من ذويهم ، فطرة دون تعليم وتلقين ، بل إن حيوانات البخلاء اتخذت البخل منهجا على الفطرة ، وهنا تكمن شدة لذع المفارقة عند الجاحظ الذي لم يكتف بفطرة البشر على البخل بل ابتدع اللامعقول ، وجعل الحيوان بخيلا على الفطرة وهذا في حد ذاته نقيض لواقع الحيوان ؛ وهذا ما يميزه إذا ما نظرنا لصورة الحيوان البخيل فطرة مقارنة بصورة المروزي البخيل فطرة ، سنجد الشكلين يتفقان .

من الحكايات الطريقة التي ترد في ( البخلاء ) قول ثمامة : " لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ ، يأخذ الحبة بمنقاره ، ثم يلفظها قدام الدجاجة ، إلا ديكة مرو ، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب . قال : فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء ، فمن ثم عم جميع حيوانهم " ([79]) .





8.2 ـ نموذج البخيل بالاكتساب ( بالمعاشرة ) :

هذا النموذج نقيض النموذج السابق أي أن فعل البخل يحدث للبخيل نتيجة تعرضه لموقف يدفعه إلى البخل فيحتاط إليه في المرة القادمة فيكون البخل مكتسبا لديه. وليس أساسا في فطرته . وذلك تبعا للموقف الذي يتعرض إليه البخيل . وغالبا ما يتبع المنطق وكلام العقل في التجائه لفعل البخل .

من أفعال البخل المكتسبة اكتسابا ما كان يقوم به أبو محمد الحزامي عندما يشتري الحب لأهله إذ كان يبحث عن أقل الحبوب كلفة وذلك بوزن أنواع الحبوب جميعا وشراء أثقلها وزنا وأقلها سعرا دون التعقل لجودة الحب بل كان يعتمد الحصول على أقسى الحبوب وأيبسها . ([80]) . ولو قمنا في عملية تموين بيته لم نجدها طارئة على مجرى حياته بل لا بد من هذا البخيل من تعرضه المسبق للتموين ووقوعه ضحية لشراء نوع من الحبوب الجيد الأمر الذي دفعه للتخطيط المسبق للأنواع التي توافق هواه .

البخيل إنسان عادي يتأمل ويتمعن في أمور الحياة ويتعلم منها أكثر الطرق اقتصادا في حياته ، ومما يؤكد ذلك أن بخيلنا السابق لاحظ أثر البخور على القميص وما يفعله البخور من نفع في إعطاء رائحة جميلة وضرر من اتساخ القميص بسواد البخور ؛ فبالتالي تعلم الحزامي أنه إذا كان جديد القميص ومغسولة لن يتبخر ولو أتوه بكل بخور الأرض مخافة أن يسوّد دخان العود بياض قميصه ، ولكنه يتبخر إذا كان متسخ القميص شريطة أن يؤتى بدهن يمسح به صدره وبطنه وداخلة إزاره ليكون أعلق للبخور . ([81]) .
تتمثل المفارقة في القصة الأولى في عمل الرجل فالمتوقع أن يتخير في مطمعه ومشربه ولكننا نجد خلاف الأمر إذ يتخير أسوأ الأنواع لرخص ثمنها وهذا ما يسمى بمفارقة خداع النفس . أما القصة الثانية مفارقتها مركبة تقع في مرحلتين الأول : أن الرجل رفض البخور لأن قميصه نظيف والثاني : أن الرجل قبل البخور عندما اتسخ قميصه مع أن المنطق يفرض قبول البخور عند كون القميص نظيف ، ورفض البخور عند كون القميص متسخا مع السعي إلى غسله . وهذه الأمور التي ناقضت الواقع تسمى بالمفارقة العملية لأنها مورست بشكل عملي من قبل البخيل مع اقتناعه بحدوثها .

ومن المفارقات الجدلية التي ترد في كتاب البخلاء قصة شارب النبيذ الذي شق قميصه طربا ، فدعا مولاه أن يشق قميصه أيضا فقال المولى : " لا والله لا أشقه ، وليس لي غيره " ([82]) فقال الرجل : فشقه ، وأنا أكسوك غدا . فقال المولى : فأنا أشقه غدا . فقال الرجل : أنا ما أصنع له غدا . فأجاب المولى : " وأنا ما أرجو من شقه الساعة " . ([83]) . ؛ فطول هذه المجادلة وتناقضاتها هي التي أوجدت المفارقة حيث استمع المولى إلى كلام عقله والى منطق الأمور في عدم شق قميصه لأنه لا فائدة ترجى من هذا الفعل الذي أكسب المولى مناعة ضد هذا الفعل .









9.1 ـ نموذج البخيل المستضعف ( بكسر العين ):

البخيل المستضعِف هو البخيل الذي يملك المال ولكنه يقزّم من شأن نفسه ويدعي الفقر والحاجة . وقد كان اختيار لفظة (المستضعِف) بعد طول إمعان في كلام الجاحظ والمعجم ؛ فالجاحظ يقول في معرض حديثه عن الكرم والجود : " وكيف يكون كذلك وهو نتاج ما بين الضعف والنفج ؟ " ([84]) ففهمنا من ذلك أن نقيض النفج هو المستضعِف ، ونقيض البخيل النفّاج وهو البخيل المستضعف ويؤكد ذلك قول ابن منظور : " المستضعِف : بمعنى الذي يستضعِفه الناس ويتجبرون عليه في الدنيا للفقر ورثاثة الحال " ([85]) ومن الأمثلة على البخيل المستضعِف ذلك الرجل الغني الذي إذا صار في يده الدرهم خاطبه وناجاه وكان يقول له : ( كم من أرض قطعت ، وكم من كيس فارقت ، وكم من خامل رفعت ، وكم من رفيع أخملت . لك عندي أن لا تعرى ولا تضحى ) ثم يلقيه في كيسه فلا يخرجه منه أبدا . ([86]). فأن يخلع البخيل الصفات الحسية على الدرهم ويجعل الرابطة بينه وبين الدرهم رابطة روحية وكأن الدرهم في هذه الحال أصبح في منزلة التقديس فلا يهان ولا يبقى وحيداً ؛ فالمفارقة هنا مفارقة وجدانية ذلك أن البخيل أرتبط روحياً ووجدانياً بما لا يجدر به أن يرتبط .

وألحّ أهل بيته عليه في طلب أمر يشتهونه ، فأخذ درهما فقط وذهب إلى السوق، فبينما هو في الطريق وجد حوّاءً قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه ، فقال في نفسه : (أتلف شيئاً تبذل فيه النفس ، بأكلة أو شربة ‍‍، والله ما هذا إلا موعظة لي من الله) . فرجع إلى أهله ، وردّ الدرهم إلى كيسه ([87]) . فهذا الرجل قد جاوز الحد في البخل ؛ فهو يمشي بالطريق ليصرف الدرهم في شهوة لكن الله يفتح عليه ويرسل إليه هذا الحواء ليراه ويتعظ ، فجاءه هذا الإلهام من حيث لا يعلم ، وهذا النوع ما يسمى بمفارقة الإلهام .
ولما كان هذا الرجل على هذه الحال تمنى أهله الخلاص منه . فلما مات جاء ابنه واستولى على ماله وداره ، وبدأ يحتسب ما لأبيه من مال وبدأ بأقل القليل وهو الطعام الذي كان يأكل منه أبوه قبل أن يموت . فأتوه بجبنة ، فإذا فيها حزٌّ كالجدول من أثر مسح اللقمة . قال : ( ما هذه الحفرة ‍؟ ) قالوا : كان لا يقطع الجبن ، وإنما كان يمسح على ظهره ، فيحفر كما ترى ، قال : ( هذا أهلكني ، وبهذا أقعدني هذا المقعد . لو علمت ذلك ما صليت عليه ) . قالوا : ( فأنت كيف تريد أن تصنع ؟ ) قال : ( أضعها من بعيد ، فأشير إليها باللقمة . ) ([88]) .

القصة كاملة باستثناء الجملة الأخيرة تسير إلى أنّ هذا الابن يرفض منهج والده والطريقة التي كان يحياها فمن غير المنطقي أن يمسح على الجبن ولا يتناوله ، ويمكن لنا تصور المدة الزمنية لوجود قطعة الجبن إذ أنّ المسح عليها فقط يطيل مدة وجودها ولا تنتهي إلا بأشهر أو على الأكثر بسنة وهي مجرد قطعة جبن صغيرة . وهكذا ظنّ الناس أنّ الولد يكره طريقة بخل والده ؛ فنتفاجأ أنه لو علم بفعلة والده قبل دفنه لما صلى عليه ولما عده مسلماً . فسأله الناس عن الطرية التي سيتعامل بها مع قطعة الجبن هذه ، وفي ذهنهم أنّ الابن سيقول جوابا مثيرا كأن يلتهم قطعة الجبن التهاماً ، أو يأتي بالطعام الكثير ولا يقتصر على قطعة جبن كأبيه – ونحن نعلم ما ورثه من مال – لكنّ المفاجأة ومفارقة كسر التوقع تتمثل في أنه سيشير للجبن من بعيد دون سلب شيئاً من أصله . وهنا ينفتح أمامنا النص إلى أنّ هذا الابن يعتبر والده كريماً وسخياً ومسرفاً فقط لأنه كان يمسح على الجبن ويأخذ من أصله ؛ فالوالد شديد البخل لكنّ الابن أشد ومن شدة بخله أنه ندم لصلاته على والده وكفره لأنه أكل الفتات من الجبن .





9.2 ـ نموذج البخيل النفاج:


النفاج هو صاحب فخر وكبر، وقيل: نفاج يفخر بما ليس عنده ، والنفاج: الذي يتمدّح بما ليس فيه ، ورجل نفاج: يقول ما لا يفعل، ويفتخر بما ليس له ولا فيه. ([89])، والبخيل النفاج يدّعي الكرم ويتظاهر به ، ولكنه في حقيقة الأمر بخيل ، ويدعي النعمة وكثرة المال ولكنه في حقيقة الأمر معدم.

من النفاجين الذين يحدثنا عنهم الجاحظ أحمد بن الخاركي اذ كان يتخذ لكل جبة أربعة أزرار ، ليرى الناس أن عليه جبتين، وكان يشتري الأطعمة، فإذا جاء بها الحمال إلى بابه تركه ساعة يوهم الناس أن له من الأحمال القدر الكبير. وكان يشتري قدور الخمارين التي تكون للنبيذ، ثم يتحرى أعظمها، ويهرب من الحمالين بالأجر كي يصيحوا بالباب: (يشربون الذاذيّ والسكر، ويحبسون الحمالين بالكراء) ، وليس له في منزله رطل دبس. ([90]).

نحن إذ نتحدث عن المفارقة عند البخيل النفاج نجد أن موضوع المفارقة يدور حول طريقة تبجح هذا البخيل وسلوكه، وكيف يتصرف ويتعامل مع الأمور التي من شأنها أن تقلل من قدره، فهذا البخيل يكره صفة البخل ويحب الظهور في أحسن صورة أمام الناس ، لكن سوء حاله يمنعه من ذلك ؛ ولهذا هو يلجأ إلى التظاهر الذي يعد الدواء الشافي من عقدة النقص التي تولدت عنده بسبب قلة المال ؛ فالنفس نفسها التي تشكلت في أغوارها هذه العقدة وجهت التصرفات والسلوك عن طريق اللاشعور لمحاربة هذه العقدة عن طريق التظاهر ، محاولةً من هذا البخيل بشكل دؤوب أن يتصالح مع نفسه، لكن أنّى له ذلك.

مما سبق نفهم أن أكثر الحكايات التي تتحدث عن النفاج إنما تريد أن تبين لنا سلوك البخيل، ولهذا تكثر مفارقة السلوك الحركي في هذه الحكايات، ومن ذلك أن جماعة وهبوا للكناني المفتي خابية فارغة ؛ فلما كان عند انصرافه وضعوها له على الباب، ولم يكن معه أجر جمالها، فلم يحملها بل كان يركلها ركلة، فتدحرج وتدور، ويقف من ناحية. فلم يزل يفعل ذلك إلى أن بلغ بها المنزل. ([91])

ولا يعني مما سبق أن الذي سيطر على حكايات النفاجين مفارقة السلوك الحركي، بل إن مفارقة السلوك الحركي لها الدور الكبير في إنشاء عدد من حكايات النفاجين، وكان لغيرها من المفارقات دور –أيضاً- إلا أن دور مفارقة السلوك الحركي أبرز. ومن الحكايات التي تبنى على مفارقة مركبة حكاية أخرى لابن الخاركي إذ كان عنده يوماً إبراهيم بن هانئ فمر بائع يصيح: (الخوخ. . الخوخ) ، فقال ابن هانئ: (وقد جاء الخوخ بعد ؟) قال: (نعم قد جاء، وقد أكثرنا منه) فاغتاظ ابن هانئ من ابن الخاركي؛ فدعا البياع وهو يقول لابن الخاركي: (ويحك! نحن لم نسمع به بعد ، وأنت قد أكترث منه ؟ وقد تعلم أن أصحابنا أترف منك)، ثم أقبل على البياع يسأل عن ثمن الخوخ، فأجاب: (ستة بدرهم). فقال لابن الخاركي: (أنت ممن يشتري ست خوخات بدرهم ،وأنت تعلم أنه يباع بعد أيام مائتين بدرهم ثم تقول: وقد أكثرنا منه، وهذا يقول: ستة بدرهم)، قال: (وأي شيء أرخص من ستة أشياء بشيء) ([92])


المفارقة في هذه الحكاية تتمثل في الادعاء الزائف والنفج الذي اتخذه ابن الخاركي وانه قد اكثر من الخوخ، لكن عندما بدأ ابن هانئ يكشف كذب ابن الخاركي ثم أوقع عليه الحجة وجدنا ابن الخاركي قد تمسك أكثر بموقفه وان ستة أشياء بشيء، بيع رخيص، وكأن هذا الرجل أصبح من أصحاب الثروة، لكنه ادعى الشراء، وفي النهاية صدق انه اشترى الخوخ بهذا الثمن. وهذا أكثر ما يكون عليه النفج في هذه المفارقة المتناسبة.

وكان هناك رجل فقير له أخ غني بخيل نفاج؛ فذهب اليه يشكوه قلة المال وجور الزمان وأنه لشدة بخله لا يساعده, فأجابه أخوه: (ويحك: ليس الأمر كما تظن, ولا المال كما تحسب, ولا أنا كما تقول في البخل ولا في اليسر. والله لو ملكت ألف ألف درهم لو هبت لك منها خمس مائة ألف درهم. يا هؤلاء، فرجل يهب ضربة واحدة خمس مائة ألف يقال له بخيل؛ ([93])


صاحبنا هذا كابن الخاركي كذب كذبة وصدقها، وإذ تمنى وجود ألف ألف درهم معه ليقسمها مناصفة مع أخيه، وهذه محاولة للتملص من أخيه، فمهما كان المبلغ الذي معه لن يصل إلى ألف ألف درهم ،وبالتالي هو لن يقسم المال ولن يعطي أخاه، لكن كيف له أن يترك هذا الموقف دون أن يستفيد منه، ألم يعط أخاه الفقير خمسمائة ألف درهم كلاماً؟! إذن هو ليس بخيلاً – في رأيه – لكن انطبقت عليه مفارقة التوهم إذ تخيل الشيء وصدقه أمراً واقعاً.




10.1 ـ نموذج البخيل الوضيع:


تختلف تصرفات البخيل الهامشي عن تصرفات باقي البخلاء إذ تتميز تصرفاتهم أنها أكثر وقاحة وأكثر نهماً في الأكل، وكثيراً ما يتركز بخلهم في الأمور البسيطة التي لا يلتفت إليها، ويمكن تبرير هذا أن البخيل الهامشي ينتمي إلى السوَقة من الناس ، وبالتالي سيتركز بخلهم على الأمور البسيطة المشكلة للحياة اليومية.


من البخلاء أبو عبد الرحمن الثوري الذي كان مغرماً بأكل الرؤوس، ولكن عندما يفرغ من تناول جميع مكونات الرأس يبقى القحف فيضعه قرب بيوت النمل والذر، فإذا اجتمعن فيه أخذه فنفضه في طست فيها ماء، فلا يزال يعيد ذلك في تلك المواضع حتى يقلع أصل النمل والذر من داره. لكن ماذا يفعل بالعظم بعد ذلك ؟ هو إذا فرغ من قلع أصل النمل ألقى العظم في الحطب ليوقد سائر النار. ([94]) فهو يستغل الشيء حتى ينتفع منه بحيث لا يبقى منه شيء دون فائدة، وهذه هي مفارقة الانتفاع من الشيء.


ودخل عليّ الأعمى على يوسف بن كيل خير، وقد تغذى فقال: (يا جارية هاتي لأبي الحسن غذاء). قالت: ( لم يبق عندنا شيء)، قال: (هات - ويلك - ما كان، فليس من أبي الحسن حشمة ولم يشك علي انه سيؤتى برغيف ملطخ وبقية مرق وبفضلة شواء مما يزيد من طعام بعد الأكل. فجاءته بالطبق، فأحال يده فيه - وهو أعمى - فلم يجد إلا رغيف أرز قاحل، لا شيء معه، وقد علم أن قوله: ( ليس منه حشمة) لا يكون إلا مع القليل، فلم يظن أن الأمر بلغ إلى ذلك؛ فصاح: (ويلكم ولا كل هذا بمرة، رفعتم الحشمة كلها) ([95]) ففهم علي الأسواري مقصد يوسف بن كل خير على أن الطعام سيكون قليلاً لكن لا بد من وجود الطعام في النهاية، بينما لم نفهم قوله: (فليس من أبي الحسن حشمة، إلا عندما جاءت الجارية بالطعام، وهنا برزت عندنا مفارقة المفهوم حيث أن اللبس الذي وقع بالفهم بين علي ويوسف هو الذي أدى إلى المفارقة.


وكان بعض الأمراء والولاة يقربون كل مفهوم ومفتون بالطعام، فذاك عيسى بن سليمان بن علي ينتخب الأكلة ويقربهم. فأكل عنده يوماً علي الأسواري فوضع أمامهم سمكة عظيمة، وبينما هم يأكلون خاف علي الإخفاق من تقريب الأمير له فأسرع يده إلى الطعام فاستلب من يد الأمير اللقمة بأسرع من خطفه البازي وانكدار العقاب. فقيل له: ويحك! استلبت لقمة الأمير من يده، وقد رفعها له وشما لها فاه، من غير مؤانسة ولا ممازحة سالفة. قال: لم يكن الأمر كذلك، ولكننا أهوينا أيدينا معاً، فوقعت يدي في مقدم الشحمة، ووقعت يده في مؤخرة الشحمة معاً. والشحم ملتبس بالأمعاء. فلما رفعنا أيدينا معا، كنت أنا أسرع حركة، فتحول كل شيء كان في لقمته بتلك الجذبة إلى لقمتي، لاتصال الجنس بالجنس والجوهر بالجوهر. ([96])

المفارقة هنا لا تقع في استلاب اللقمة من يد الأمير فهذا الأمر متوقع الحدوث عندما تأكل مع منهومين، لكن المفارقة تقع في الحجة التي قدمها للجماعة فالطريقة التي فسر فيها علي الأسواري موقفه تحتوي المنطق واستخدام أسلوب الكلام؛ فيده ويد الأمير وقعتا على القسم نفسه من الطعام واتصال الطعام بعضه ببعض هو السبب لهذا الخلل الذي حدث، لكن يا ليته لو لم يقدم هذه الحجة، فهو مع خطأه – بعدم القدرة على البرهان والإثبات؛ فجاءت حجته واهنة، وجاء تأويله إدانة لبشاعة صنيعه. والمفارقة في هذه الحكاية وقعت في أن الرجل أخطأ ثم احتج لخطأه بطريقة متكلفة ميزت النص بمفارقة الحجة.




10.2 ـ نموذج البخيل من النخبة :


يتحدث هذا النموذج عن البخيل من الطبقة الثرية ، والتي غالباً ما يكون شخصها والياً أو وزيراً أو حاجباً أو ممن امتلك الثروة الكبيرة ؛ فقد يقبل البخل من فقير أو معدم الحال لكن لا يقبل أبداً من برجوازي حتى وإن كان بخلاً غير ملحوظ . وحريٌّ بنا أن نشير إلى أنّ الحكايات جميعها ليست مأخوذة كما هي من واقعها ، فمن الممكن أن دخل عليها بعض الزيادة أو قد تكون ألفت كاملة لتكون موضع تندر بين عامة الناس في تلك الآونة .
مما يورده الجاحظ على لسان سهل بن هارون قوله : " وعبتم عليّ قولي : من لم يتعرف مواقع السرف في الموجود الرخيص ، لم يعرف مواقع الاقتصاد في الممتنع الغالي ، فلقد أتيت من ماء الوضوء بكيلة يدل حجمها من مبلغ الكفاية ، وأشف من الكفاية ، فلما صرت إلى تفريق أجزاءه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وظيفة الماء ، وجدت في الأعضاء فضلاً على الماء ، فعلمت أن لو مكنت الاقتصاد في أوائله ورغبت عن التهاون به في ابتدائه ، لخرج آخره على كفاية أوله ، ولكان نصيب العضو الأول كنصيب الآخر . " ([97]) .

ومما يسرد عن والٍ بفارس قد يكون خالداً خومهرويه أنه كان يجلس يوماً ، وهو مشغول بحسابه وأمره ، إذ نجم شاعر بين يديه ، فأنشده شعراً مدحه فيه ومجدّه . فلما فرغ أقبل الوالي على كاتبه فقال : أعطه عشرة آلاف درهم . ففرح الشاعر فرحاً قد يستطار له ، فلما رآه على هذه الحال قال : اجعلها عشرين ألف درهم . فكاد الشاعر يخرج من جلده . فلما رأى فرحه قد ازداد قال : أعطه يا فلان أربعين ألفاً . فكاد الفرح يقتله . فأقبل الكاتب قائلاً : سبحان الله ! هذا كان يرضى منك بأربعين درهماً ، تأمر له بأربعين ألف درهم ؟ قال : ويلك ! وتريد أن تعطيه شيئاً ؟ قال : ومن إنفاذ أمرك بدٌّ ! قال: يا أحمق ، إنما هذا رجل سرنا بكلام ، وسررناه بكلام ، فيكون كذبٌ بكذب ، وقول بقول . ([98]) .

تندرج هذه المفارقة تحت ما يسمى بمفارقة الرد بالمثل فهذا الشاعر المسكين (ضحية المفارقة ) قد صدق الكذبة التي صنعها الوالي ، وهذه الكذبة هي التي شكلت موضوع المفارقة ؛ فالشاعر كذب على الوالي ، والوالي – في المقابل – ردَّ الكذبة إليه ، فكان الوالي المُسيّر لأحداث المفارقة بينما الكاتب والشاعر في غفلة عما يحدث من مفارقة ، وكانت النهاية أن فهم الشاعر الحيلة التي انطوت عليه ، وظهرت عليه خيبة الأمل لخسارة أربعين ألف درهم .
ومما كان يروى عن خالد بن يزيد مولى المهالبة أنه بلغ في البخل والتكدية وفي كثرة المال المبالغ التي لم يبلغها أحد ، " وكان ينزل في شقِ بني تميم ؛ فلم يعرفوه ، فوقف عليه ذات يوم سائل وهو في مجلس من مجالسهم ، فأدخل يده في الكيس ليخرج فلساً – وفلوس البصرة كبار – فغلط بدرهم بغلي ، فلم يفطن حتى وضعه في يد السائل . فلما فطن استرده ، وأعطاه الفلس . فقيل له: هذا لا نظنه يحل ، وهو يعد قبيح . قال: قبيح عند من ؟ إني لم أجمع هذا المال بعقولكم ، فأفرقه بعقولكم ، ليس هذا من مساكين الدراهم ، هذا من مساكين الفلوس . " ([99]).

الخطأ الذي وقع فيه خالد بن يزيد لم يكن له سبيل إلى الخلاص إلا بأن يحتال على الجالسين لكنه لم يقم إلا بخداع نفسه عندما حول الدرهم إلى مسكين من مساكين الفلوس الذي يحتاج الرعاية والحفظ ولذلك هو تمسك به حفاظاً عليه . ولو نظرنا إلى هذه المفارقة بأنها عملية مخادعة ستكون ضمن مفارقة خداع النفس ، أما إذا تعاملنا معها وفقاً للطريقة (الحيلة) التي توصل بها لمعنى المفارقة ستقع – بكل تأكيد – وفق المفارقة البلاغية من أنّ خالد بن يزيد لا يوكل هماً للدرهم لكنه إن يهتم فهو يهتم بالمساكين من الفلوس ( الدراهم البغلية ) ويحافظ عليها .

وكثرة المال لدى عدد من الأشخاص أدت إلى البذخ في التصرفات ، ومن ذلك أنّ بلال بن أبي بردة - والي البصرة قد خاف الجذام – ولم يصب به – فوصفوا له الاستنقاع في السمن . فكان إذا فرغ من الجلوس فيه أمر ببيعه . ([100]) فمجرد الخوف من المرض أدى إلى الاستنقاع في السمن مما يدل أنّ الكمية اللازمة لذلك هي كمية كبيرة ، وهنا قد يتساءل القارئ ماذا سيحدث لهذه الكمية من السمن ؛ فيكون الجواب مباشرة أنه كان يأمر ببيعها . والمفارقة تكمن في القسم الأخير من الحكاية ، فهذا الرجل الذي يجلس في السمن ويكلفه ذلك مبالغ كبيرة يأمر ببيعه ، ومما يدلنا إلى ذلك قوله : ( فكان إذا فرغ من الجلوس أمر ببيعه ) أي أنه لم يجلس في السمن مرة واحدة واكتفى ، بل كان جلوسه في السمن مرات عديدة ـ مما يدلنا عليه سياق الجملة ـ وهكذا قد يذهب ذهن القارئ إلى أنّ هذه الكمية قد تلقى أو تستغل في أمر لا ضرر فيه لكن أن يبيع السمن الذي لا يصلح للبيع فهو أمر غير متوقع وهي مفارقة كسر التوقع .

(18) عفيفي ، محمد الصادق :نموذج البخلاء في الأدب العربي والأدب الفرنسي ، ط 1 ،دار الفكر ، الجزائر ، 1971م ، ص22، سيشار إلى هذا المرجع بـ : عفيفي : نموذج البخيل .
(19) ارسطوطاليس: فن الشعر مع الترجمة العربية القديمة ،ترجمة: عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، 1994،ق ص 34 –44
(20) عفيفي :نموذج البخيل ، ص 67
(21) عفيفي ، نموذج البخيل ، 29-30
(22) الجاحظ :البخلاء ،ص 3
(23) انظر : عفيفي: نموذج البخيل، ص 31
(24) الجاحظ : البخلاء ، ص 3
(25) عفيفي : نموذج البخيل ، ص 32
(26) الجاحظ: البخلاء ، ص5
(27) دوجلاس ، فدوى مالطي: بناء النص التراثي ، ط1 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1985 ، ص 43
(28) انظر: دوجلاس : بنية النص ، ص 24
(29) الجاحظ : البخلاء ، ص 28
(30) الجاحظ : البخلاء ، ص 105
(31) انظر : الجاحظ : البخلاء ، ص ص 142 - 143
(32) الجاحظ : البخلاء ، ص 147
(33) االجاحظ : البخلاء، ص 127
(34) الجاحظ : البخلاء ، ص 123
(35) الجاحظ: البخلاء ص 58
(36) الجاحظ : البخلاء ، ص 58
(37) الجاحظ : البخلاء ، ص ص 79 - 80
(38) الجاحظ: البخلاء ، ص 72
(39) الجاحظ : البخلاء ، ص 149
(*) يذكرنا ذلك بشخصية ألازون المحتال الذي كان له الدور الكبير فيما بعد بحيل المفارقة . " الحيلة تشكل بؤرة للشعور بالمتعة وسبيلا لحل معضلة . أكثر من هذا أننا نجد في الكثير من حكايات الضيافة مزيجا من الإثارة ، أثناء انتظارنا لنرى كيف سينجح المضيف في الهروب من ورطته ، والدهشة، عندما تستخدم الحيلة. انظر: دوجلاس : بنية النص ، ص 46
(40) انظر : الجاحظ: البخلاء، ص 126
(41) الجاحظ: البخلاء، 128
(42) الجاحظ: البخلاء ، ص 135
(43) الجاحظ: البخلاء ، ص 149
(44) انظر : الجاحظ:البخلاء ، ص61
(45) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص70-71
(46) انظر :الجاحظ: البخلاء ، ص70
(47) القدرية : قوم يجحدون القدر ، وينسبون الى التكذيب بما قدر الله من الأشياء .
انظر : ابن منظور: لسان العرب ، م2 ،ط6 ، دار صادر ، بيروت، 1997 ، مادة ( قدر ) .
(48) انظر: الجاحظ: البخلاء ، ص147
(49) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 117
(50) انظر: الجاحظ: البخلاء ، ص 116
(51) الجاحظ: البخلاء ، ص 116 – 118
(52) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 118
(53) الجاحظ: البخلاء ، ص137
(54) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص30
(55) الجاحظ: البخلاء ، ص37
(56) انظر :الجاحظ: البخلاء ، ص 44
(57) الجاحظ: البخلاء ، ص 125
(58) الجاحظ:البخلاء ، ص35
(59) انظر: الجاحظ:البخلاء ، ص82
(60) انظر :الجاحظ: البخلاء ، ص82-89
(61) انظر: الجاحظ: البخلاء ، ص 18
(62) الجاحظ: البخلاء ، ص 44
(63) القرآن الكريم، سورة الإنسان، آية 9
(64) انظر : الجاحظ:البخلاء ، ص 73
(65) الجاحظ:البخلاء ، ص 73
(66) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 124-125
(67) الجاحظ: البخلاء ، ص 17
(68) الجاحظ: البخلاء ، ص 17
(69) الجاحظ: البخلاء ، ص 18
(70) الجاحظ: البخلاء ، ص 23
(71) الجاحظ: البخلاء ، ص24
(72) الجاحظ: البخلاء ، ص 153
(73) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص202-203
(74) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص144
(75) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 198
(76) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 113
(77) الجاحظ: البخلاء ، ص 18
(78) الجاحظ: البخلاء ، ص44
(79) الجاحظ: البخلاء ، 18
(80) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 60
(81) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 60
(82) الجاحظ: البخلاء ، ص 119
(83) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 119
(84) الجاحظ: البخلاء،ص171
(85) ابن منظور: لسان العرب ، مادة ضعف
(86) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص 131
(87) انظر: الجاحظ: البخلاء ، ص131
(88) انظر: الجاحظ: البخلاء ، ص 131-132
(89) انظر: ابن منظور: لسان العرب ، مادة نفج
(90) انظر: الجاحظ: البخلاء، ص 125 – 126
(91) انظر: الجاحظ: البخلاء, ص 200
(92) أنظر: الجاحظ: البخلاء، ص 126- 127
(93) الجاحظ: البخلاء، ص 195
(94) انظر: الجاحظ: البخلاء, ص 108
(95) انظر: الجاحظ: البخلاء, ص 120
(96) انظر:الجاحظ: البخلاء, ص 69
(97) الجاحظ: البخلاء ، ص10
(98) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص26-27
(99) الجاحظ: البخلاء ، ص 46
(100) انظر : الجاحظ: البخلاء ، ص150